الوجوه التي لوحتها شمس الصحراء وشكلتها رمال الجبال ، و(الأشمغة) كالأشرعة توجه الوجوه وترسم الملامح، والحناجر البدوية تجيد الزغاريد مع صوت الرصاص ، وغبار الكرامة ما يزال عالقاً خلف الآذن ، (والقايش) أعطى للخصر احترامه ، وحد (البورية) حفر مجراه حول الرأس وحدد مكان الشيب وزحف الصلع ، والكتف حمل الرتب فهو يعرف تسلسلها جيدا بدء من (الشريطة) وانتهاء بالنجوم والتيجان والقبب ، وما تزال البندقية على الكتف محمولة ، والقلب مع العيون يرقب السفح ...وما تزال ذقونهم ناعمة ، وأيديهم خشنة ، (وبساطيرهم) لامعة ، ما خانوا وما باعوا وما هتفوا يسقط العرش ، كان هتافهم (نظاف نظاف وما بنخاف )...
هؤلاء هم المتقاعدون الذين طالهم بعض من الظلم فقرروا الحج إلى الدوار الرابع ، راجلين يحملون صورا من ارض البطولة والكرامة ، وهم على الشريعة وعلى نقاط التفتيش ،صاعقة ولاسلكي وتموين وحرس حدود وذخيرة ، ضباطا وضباط صف وأفراد ، منهم من حمل صورة عن شهادة التعيين أو قرار التقاعد واللجان الطبية و(المعلولية) ، مطالبين ببعض حقوقهم ، فتعليم الأبناء أرهقهم ، وأجار المسكن أتعبهم ، فهم قدامى المحاربين الذين خدموا الوطن في وقت كان الوطن بحاجتهم ، ومن ملح الأرض كان بارودهم ومنه صنعوا الذخيرة ، ومن يابس شجره كان دفئهم وطارد الذئاب المتربصة به ، كانت بوصلتهم لا تشير إلا إلى وطنهم ، فهو شمالهم وجنوبهم وفيه تشرق الشمس وعنده المغيب .
تخطوا الحاجز الأول ثم الثاني وثالث ، ولم يرتبك الدرك ولم تطلق الغازات المسيلة للدموع ولم تطلب التعزيزات الأمنية ، وصلوا لدار الضيافة دون أن يرشدهم أحد ، لم يكسر غصن شجرة ولم تلقى بالأرض ورقة .
بعضهم خدم هناك على الحاجز الأول والثاني يعرف المكان جيدا فما يزال كوخه المعد للحراسة واقفاً مكانه ، وما يزال أثر بندقيته وتنفسه بادياً على زجاج الرئاسة ، وجدرانه تحمل جدول الحراسة ، هؤلاء المتقاعدون يعرفون رؤساء الوزراء الذين مروا من هناك ، رؤساء لم تطل إقامتهم كثيرا هم ذهبوا والجنود الشرفاء بقوا ، يحفظون عدد المرات التي أمروا بها رئيس وزراء أن يقف للتفتيش فالوقوف إجباري في حضرة الشعار والبندقية ، يملكون فراسة البدوي وحذق الجندي ليعرفوا السيارة المشبوهة من غيرها ، يعرفون الوجوه جيدا ولا يكترثون ....
تظاهروا ، وهتفوا افترشوا الأرض تلحفوا بسماء الوطن من برده... ثم غادروا سلام بسلام ، ودعهم أبنائهم الجنود العاملين على باب الرئاسة من مكافحة شغب ودرك ، كانوا آمنين بحضرتهم آمنين منهم وآمنين عليهم ودعهم أباؤهم المتقاعدون وهم يوصونهم بالواجب يذكرونهم بشرف الجندي يوصونهم بالوطن خيرا ، سحبوا معهم الحواجز لمكانها فأعادوا القواطع والأسلاك الشائكة والمتاريس...
كان احد الجنود الرابطين خلف الرشاش فوق سيارة الهمر ينادي على أحد المتقاعدين وهو يتخطى احد الحواجز الإسمنتية (من هان عموه من هان مر وأحترس على راسك ...)
لهذا السبب لم تحدث مواجه بين المحاربين القدامى والمحاربين الجدد فالكل يعرف الدرب والكل يعرف الواجب وشرف العسكري عاملا أم متقاعد هو شرف واحد والشعار المرفوع دائما (الله ، الوطن ، الملك ) لكل زمان ومكان ، للعاملين والمتقاعدين لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم....
فلا تنسوا من مروا من هنا ولا تجعلوهم يموتون حسرة من ظلم لحق بهم فهم زرعوا فأكلنا ....