الطريق الى نوبل

mainThumb

14-05-2012 10:22 AM

تعالى صوت المؤذن  مبدداً هجعة الكرى من  عيون النائمين، فنهضت ذاكرأً الله وتوضأت واتجهت الى المسجد  ، وبعد الصلاة  ، رجعت أدراجي  نحو البيت  وقد لف الكون صلوات مختلفة  الأصوات  واحدة الموضوع: فسقست العصافير على أغصان الشجر  تسبيح وصلاة  ، وحفيف اوراق الشجر  يداعبها نسيم الفجر  صلاة وتسبيح   ؛ آلاف الأصوات الصادرة من منابع شتى  جميعها تطرق سمعي  تذكرني بقوله تعالى "... وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم...  " ، تسابيح وصلوات  فجرية  تمجّد الخالق  شاهدة على  عظيم ابداعه  وحكمته. 
 
سبّحت الله  وأخذت أردد " وفي الأرض  آيات للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون"    وصلت البيت  وقد تلاشت آخر خيوط الظلام وأشرقت  تباشير الصباح  ، ما زالت تراتيل الكون البهية  تداعب  سمعي  واشجار الزيتون  في الحقول من حولي  ترتل أسمى آيات الابداع الرباني  ،  فحفيف الأغصان  ممزوجاً  بصياح الديكة  وثغاء الأغنام  وخوار البقر وهديل الحمام  وعندلة البلابل   و معزوفات أخرى  تتعانق  في سماء الفجر  تعانق تكبيرات الحجيج  في عرفات  ساعة النفر  مؤلفة صلاة واحدة مرفوعة  الى خالقها .  ابهجني الصباح الجميل  فقررت  تامل  آيات الله في الكون  ، فواصلت السير شمالاً. وكلما سرت  خطوة   ازدادت رغبتي في التوغل  في حقول الزيتون  كي ازداد أيمانا مع ايماني  فمع كل خطوة سمعت نداء الحق الخالد  في ضمير الكون  يتردد صداه  في أرجاء الطبيعة  بمظاهرها المتعددة  من ليل ونهار  ونور وظلمات  ، ونسيم  ورياح  وحفيف اشجار  وسقسقة العصافير ولمع البروق وقصف الرعود ،  نبض الحياة والموت : في هذه اللحظة يولد المئات ويموت  مثلهم ، فهذا باك  وذاك فرحان ،  اشياء لا تحصى ولا تعد  .  رأيت  فعل الله العظيم  يتجلى لي  مع تموجات الأعشاب  في سفوح الجبال  التي  ترحب بالنسيم الزائر لها مع اول  شعاع  ، رايت العظيم يتجلى لي مع كل  خفقة ورقة  من أوراق الشجر  ومع كل نبض في عروقي   . في تلك اللحظة تذكرت قول من قال" قد تجلى الله للأنبياء ونحن أحوج منهم الى ذاك التجلي  ، وعندما نتحسس موضعنا في البيت الكبير المسمى بالعالم  فلن  يصيبنا إلا الدوار" . حمدت الله وتحسست موضعي في ذاك العالم الكبير ، ولم يصبني الدوار  بل  كشفت لي الحقيقة   فاتحة ابوابها الواسعة  وأخرجتني من ظلمات نفسي لأجد الله متجليا لي في كل حين  وآن رغم ما اقترفت من ذنوب وآثام ,  ورردت قوله " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا"  رأيت هذه الآية نورا يبدد الظلام من أعماق نفسي المظلمة,  وتفكرت في آيات الله في السموات و الأرض  ورددت " وفي الأرض  آيات للموقنين ، وفي أنفسكم أفلا تبصرون" . ومما ازدهى نفسي وزاد ابتهاجها  هتاف  ورقاء  على قضيب رطيب  معطراً   برائحة  الشيح   والزعتر والفيجن والطيون .  هذه الرائحة امتطت صهوة النسيم العابر من الضفة الأخرى للوادي  مارة بسفح الجبل المقابل  المكتسي حلة ربيعية . واصلت المسير وواصل الكون  من حولي نهوضه من سباته.
 
وما أن اشرفت على وادٍ سحيق  حتى سمعت نباح كلاب شديد . أجلت بصري  باحثا عن  مصدر النباح . نعم! انها هناك في أسفل الوادي  وقد شكلت  شبه حلقة ، وكانت جميعها تحني رؤسها نحو الأرض  كانها تريد  نهش شيء ما.  وبعد لأي هبطت سفح الجبل الوعر  ... ومع اقترابي  من الكلاب حتى تراجعت  مفسحة لي طريقاً الى البقعة التي كانت تحيطها...  خيّل لي أني سمعت  أنيناً  عميقا قادما من أعماق الأرض .  لم يكن هناك إلا حفرة  موحلة ماؤها آسن   تجمعت فيها شتى أنواع القاذورات التي قذفتها مياه مجاري المدينة . اقشعرّ  بدني  ووقف شعر رأسي ، فلم اصدق ما سمعت  ، لكن بعد هنيهية أنطلق صوت صارخ  من أعماق الحفرة.  جفلت وتراجعت الى الوراء .. تقدمت ثانية نحو الحفرة وارجعت البصر فرأيت  كتلة من طين داكن تتحرك متثاقلة في  الماء الآسن الداكن  وقد برز منها  ما يشبه رأس انسان  فيه عينان تكحلت رموشهما  بالطين ، وسال خيط رفيع من دم  بينهما.  لمٍ اصدق  ما رأيت : أزاغ بصري أم طغى؟  فركت عيوني ودققت النظر  ثم صرخت : ماهذا؟  ارتفعت كتلة الطين من الماء الآسن كأنها سمكة طيارة  وهوت فيه كرة أخرى،  ثم ارتفعت وشهقت !  الويل لي !  هذا عفريت  ، تناولت حجرا كبيرا  كي أرضخ رأسه   ، لكن ارتفع  صوت  من الكتلة قائلا:" أرجوك ، أرجوك  ساعدني  ... اخرجني من هنا ... أخذ جني الطين  يصارع صراع قطاة غرها شرك  فباتت تجاذبه وقد علق الجناح : مرة يطفو فوق الماء  وتارة يختفي تحته  ليعود ثانيا شاهقاً وقد أمتلأ فمه بالطين والماء الآسن   . بعد تفكير طويل قررت  خلع غصن طويل من شجرة كينا ...  مددت الغصن نحو الطين ، تشبثت به يدان مموهتان بالطين  وبعد محاولات عديدة  تمكنت من سحب كتلة الطين  الناطقة ....  لكن سقطت فجأة  من جانب الحرف  الذي سحبتها عليه الى مجرى ماء المجاري المكشوفة   فاخذ الطين ينحل عن الكتلة .... وعاد الصوت  صارخا : ساعدني ساعدني  .. مددت الغصن كرة أخرى  وسحبت الجسم الممزق المنهك حتى أرحته بجانب صخرة  في ظلال شجرة كينا ... كانت الشمس قد ارتفعت وبدأ الدفء يدب في الكون.... 
 
 وبعد أن هدأت نفسه ، قلت له : ويلك من أنت ؟ وما دهاك؟ . أجاب صوت متقطع متعب: ألا تعرفني؟   قلت : لا  ، من أنت؟     صمت ولم يجبني  ... دققت النظر  فيه  ومسحت تضاريس وجهه مسحاً   ، ولأيا عرفته بعد توهم ...  فقلت له  : أنت  .. فقاطعني  على الفور  : أنا " فهمان المتعالم"   أنا الكاتب الذي طبّقت شهرته الآفاق وسارت باسمه الركبان!  فقلت : من رماك في هذه الحفرة الآسنة؟  ، كانت  دهشتي  كبيرة عندما قال لي : جئت الى هنا كي أتوج واستلم جائزة نوبل!ٍ  قلت في نفسي اصابه مس من الشيطان!  قال :  يا أخي لا تظن أني مجنون!  أنا الآن بكامل قواي العقلية!  ... ففي هذه الحفرة الآسنة أدركت حقيقة نفسي!  لكن ارجو أن تذهب الى بيتي وتحضر لي ملابس نظيفة،   ولا تعلم أحداً بالأمر   حتى لا يهرع الناس الينا . قررت ان لا أذهب حتى أعرف حقيقة ماجرى.  وبعد ان ادرك اصراري على ذلك قال : هاك الحكاية إذن:
 
  بدأت حكايتي ياسيدي،  وليتها ما بدأت ، ذات يوم وأنا جالس مع شيخين  وعجوزين  طاعنتين في السن ،ودار حينها نقاش  بيننا عن الماضي والحاضر ، فوجدتني أبُز الجميع  في الحديث   وذلك لأني كنت انطق بكلمات تدوي في صدور أولئك الأميين  دوي الرعد في آفاق السماء. يومها شعرت بالفخر والاعتزاز  بمقدرتي على الإقناع ، وزادت ثقتي بنفسي عن حدها حتى اصبحت غروراً  لم ادركه حينها، وبعد ذلك ، اخذت اناقش أقراني من أنصاف المتعلمين وخاصة خريجي الجامعات التجارية الذين  هجروا القراءة  منذ زمن بعيد و اشتغلوا بالعمل والتدريس  حتى أصبح واحدهم  يخشى مناقشة  أغبى تلميذ عنده  في الصف! حدثني نفسي بعد تفوقي الساحق في النقاشات  ان اطرق باب الصحف وأكتب فيها! وأخذت اصول وأجول  وأدق الطبول  عندما لا يجرؤ أحد على مناقشتي خاصة عندما كنت أنطق بعبارات ومصطلحات معرّبة  مثل :  الليبرالية ، والانطولوجيا ، والابيستمولوجيا  واليموقراطية ، والبيروقراطية والأتوقراطية والتكنوقراطية والخرطولوجيا وغيرها كثير، مع اني شخصيا اجهل المقصود منها  اذ لم أكن اعرف سوى التشدق  والتفيهق بها. قررت الكتابة لأن العينة التي اناقشها كانت في معظمها تمثّل قراء الصحف ، فلماذا لا اتخذ من الصحف ميداناً لي؟
 
 وذات يوم كتبت مقالاً في احدى الصحف المحلية تحدثت فيه عن الماضي والحاضر  ودور السينما في اثراء الفكر العربي  ، وتوجيه الوالدين في تربية الأبناء  واغناء  الحركة الثقافية والدور الاساسي الذي يلعبه الفن السابع  في خدمة المعركة ضد الإمبريالية العالمية والرجعية  .  ولحسن نشر  المقال بعد أسبوع وان لم يكن في مكان بارز! وانتظرت اسبوعاً كي يعلق أحد على مقالي أو الرد عليه :  فما ردّ أحد ولا علّق!  فقررت أنا نفسي أن أرد على مقالي  باسم مستعار وصمت الكاتب  فيه بالجهل وأنه يهرف بما لايعرف! وهكذا توالت مقالتي العظيمة التي لم يكترث بها احد!  فقررت أن أطرق مواضيع حساسة مثل الدين والتاريخ الإسلامي  منادياً بالتطوير والتجديد  ... ويا لهول المفاجئة! تصور!  علماء كبار يتصدون لي! حلم لم يراودني أبداً!  وبدأت المعركة معهم ...  اليوم سطع نجمي  اليوم ابعث من جديد فقد ضحكت لي الحياة  بمقالتي السعيدة ... جدال ونقاش مع كبار القوم من المشايخ!  وعندما كنت أعجز أحيانا ألجأ الى اصدقائي المثقفين : اجادلهم في تجاه  متفق مع رأي العلماء فيأتي أصدقائي برد معاكس اتلقفه منهم وأرد فيه على المشايخ! واحيانا كنت استدرج الأصدقاء كي يردوا....
 
 صدّقت نفسي أني كاتب وفارس ميدان لا يشق له غبار، فصعّرت خدي للناس  ومشيت في الأرض مرحاً مختالاً قائلاً" اهتزي يا أرض   لا أحد مثلي عليك ، لأخرقنّك ولأبلغّن جبالك طولا"  ومما ازدهى نفسي وزادها تيها أن  نفراً من العلماء المعروفين   اخذوا يردون  على مقالاتي  الاسبوعية ، فسررت بذلك لأن ذلك يسعدني فأنا كالعود يزيده الإحراق طيباً! لكن لا اكتمك ان احد المعلقين أصاب كبد الحقيقة عندما  قال  أن  مقالاتي وافكاري يفندها  تلميذ في الصف السادس الابتدائي  ويستطيع أن يأتي بخير منها . فقررت  ان لا أجادل ذلك الشيخ وأضرابه بل تصديت لكبار الشخصيات التاريخية مثل هارون الرشيد ومعاوية وكبار أئمة الاسلام مثل ابن تيمية والشافعي وغيرهم كثير!
 
ولمع سراب غروري وشهرتي  الزائفة في قفار ومفاوز   خالية من ماء الفكر والعلم ، مع أني كنت أدرك أن تلك الهالة قد فبركتها انا  بنفسي وبمساعدة من اصدقائي الذين  امدوني بمقالات من عندهم نشرتها باسمي  ،  وتماديت في غروري  فأصبحت  معتقدا أني كاتب مجنح الخيال بعيد البصر والبصيرة  ، رقيق العاطفة   حتى استبد بي جنون العظمة ... ففي ليالي الشتاء الطويلة  كنت اتخيل نفسي جالساً مع كبار  الكتّاب مثل  الجاحظ  والعقاد وطه حسين  وكذلك الشعراء شوقي والمتنبي اراهم جالسين امامي ومن حوالي راكعين ، وانا على منصة عالية ،  أناقشهم وأجادلهم فيعجزون عن الرد! كان صراخي يعلو حتى يأتي احد الناس ويدق بابي ويسأل عن سبب الصراخ!  ظانا أن مكروهاً قد حل بي!  اقول  لهم  أن ما سمعوه حوار مسجل في ندوة ما! كنت أجلس كل ليلة والعالم بأسره من حولي  بحكامه ومحكوميه  يصغي لي  حتى أن اللهجة الآمرة الناهية  بدأت  تصبغ كتاباتي  ...
 
 وذات ليلة خرجت من جسدي  وجلست على كرسي مقابل ،كانت نفسي الخارجة  تشبهني لكنها  بشكل ناري نوراني هكذا خيل لي كانت  تشبه ضوء البدر : نار ونور الشهرة  تتوهجان أمامي : اتخذت من الشهرة معبوداً لي   ...
وفي ليلة ظلماء افتقد فيها نور البدر حاولت الخروج من جسدي   حاولت مطاردة خيوط نفسي  التي تحولت رمادا بفعل نار الشهرة  حاولت ان ارتوي من  ماء سراب الشهرة   ... حاولت تقطير نفسي الممزقة وجمعها في إناء أحلامي  الهاجعات على رمال الظمى ...   مزقني القلم  وتناوشتني رماح الحروف  فكنت أشلاء على أسنتها..  عضضت أنامل الحزن من الغيظ  ... لكن دون جدوى  بكيت وصرخت    ...  وفجأة  بدى لي على   الكرسي المقابل  شكل جديد مختلف ...  شكل مزخرف بألوان شتى برّاقه ،  لامع ، يكاد يخطف الأبصار ...  ابتسم  ... فركت عيني!    أختفى مرة أخرى ثم ظهر  .... لم اصدق خيالي!      سرحت بخيالي الى آفاق بعيدة ... أدرت وجهي   فكان امامي، أغمضت جفوني !   فتحتها .. مازال أمامي!  تبسم وقال :  رويدك لا تخف  فالعظماء لا يخافون وانت منهم !  بل لم يخلق مثلك حتى اللحظة!  اؤكد لك إنك أنت عظيم العظماء  وعاقد لواء العلماء  ... سأحاورك  في الحياة  ودور الإنسان فيها!  تمالكت نفسي وسألت من أنت؟
 
 اجاب : أنا الذي  يتسلل إلى داخل النفوس من فوق الاسوار وعبر الجدران! أنا الذي يجري في دمك!  انا الذي اشق طريقي الى نفسك بلا خوف ولا وجل ولا حياء ولا خجل!  أنا افعل ذلك لأن لدي عهد متين! ألم تر كيف دخلت والباب محكم الإغلاق؟ أنا قادم  متحدٍ لك في الجدال! 
 
 عند ذلك نسيت الخوف وكشرت عن أنيابي،   وأخذت اكيل له  شتى العبارات  والمصطلحات  كالوجودية والواقعية والسريالية  والبوهيمية  والدايلاكتيك والمنفلوطية والأفلاطونية والسفسطائية  والخرطولوجي والأدب الحلمتيشي!
 وما أن سمع كلامي حتى استسلم وقال أنا لا افقه ما تقول! حقا أنك علاّمة!  فقلت له : بالله عليك من أنت؟
غضب صاحبي وأخذ يتلاشى كأنه خيط دخان رفيع رفيع! وفجأة ظهر من جديد  يتطاير الشرر من عينيه!  لا تذكر ذلك الإسم ثانية! وإلا جعلتك امثولة!
 
 فزاد فضولي  فسألت: من انت  باالل   .. وضع يده الحامية على فمي  حتى كادت بحرها ترتق شفتي .. وصرخ ... ويلك لا تلفظ تلك الكلمة! كان يريد منعي من لفظ كلمة الله !  
 
 ازاح يده عن فمي وقال اصمت  لا تتحرك : أنا  مانح المجد  ، معبّد طريق السعادة  والخلود ، واهب الشهرة لباغيها حسب  ما اريد  ، انا من آخذٌ بيدك  في معارج الرقي والشهرة والتقدّم...  واشار لي  بيده من بعيد ... هيا اتبعني ! فقلت له لن اتبعك مالم تفصح عن نفسك . قال: ويلك أنا الذي اوحيت اليك زخرف القول ... أنا اخوك الشيطان   بل معلمك الأكبر!   ومضى قائلا: لقد هزمتني  في الجدال!  ولذلك أرجوك أن  تعيد  لي نار وجهي  وأخذ يبكي  دموعا من شرر ولهب  ودخان اسود  ، دموعاَ تحرق كل  قلب كل شيطان رجيم!
 وقال أن لم تتبعني  لأغرين بك سفهاء القوم فلا يكترثوا بك وسأحرمك من الشهرة!
 
 فقلت ياسيدي   بل وليي  يا مانح الشهرة : اعيد لك اعتبارك امام الدنيا كلها   "إذا"  ساعدتني في تحقيق مرادي ! قال : أراك واثقاً من نفسك  فأنت تستعمل في جملتك الشرطية" إذا" بدلاً  من " إن"!  كأنك واثق من وقوع الشرط ... افصح عن مرادك يا هذا!
 
 قلت يا مولاي : نوبل نوبل!  فقهقه الشيطان حتى  استلقى على الأرائك من خلفه فخشيت أن يحرقها بناره!     ثم قال ذاك امر يسير : عليك سلوك طرق متعددة الظلمات عليك.. وفجأة انطلق صوت المؤذن  في الفجر ... الله اكبر .. قفز صاحبي مذعوراَ   :كأنه البرق : قائلا  : أخبرك في وقت آخر !  استودعك زخرف القول ! سأغادر الآن  عليّ تنفيذ أمر هام : أنا ذاهب لأقعدن الصراط المستقيم! واختفى في لحظة دون   افهم ما أراد
مضت ليلة وتلتها اخرى ولم يحضر. فبت تلك الليلة  كأني ساورتني  ضئيلة في انيابها السم ناقع!  ولم استطع تناسي الهم عند احتضاره  فلا ناج  لدي  ولا عليه الصيعرية مكدم!  ومرت ليال أخر  وأنا ادعو الشيطان الرجيم باسمه أن يظهر لي!  احسه في دمي! في عقلي! اريد ان اراه ! اريده ان يهديني الى طريق توصلني الى نوبل!  واخيراً قررت أن اخرجه من مكمنه .. الصلاة  الصلاة ... توجهت نحو المغسلة   نظرت في مرآتها ... فإذا بحبيبي  يضحك  في وجهي   وقال : الشهرة عليكم يا اخا المجد! فأجبت غاضبا غضبة مضرية :  اغرب اغرب ، انا ذاهب الى المسجد لأصلي نكاية بك!  قهقه الشيطان قائلا : يا مسكين   لإ فأنت بهذا الفعل لا تصلي لربك بل نكاية بي ! حتى هذه لن تنفعك  فصلاتك مربوطة بي ، من اجلي انا !
 
 وقال مهما حاولت فلن تنجو من شراكي  ولن تنجوا من الشرك الخفي!  فكم من زاهد  جعلته يشرك بزهده وكم من عابد الهيته أنا بعبادته عن عبادته! 
 
 قلت : ارحمني يا سيدي  : كيف   تلهي العابد عن عبادته بعبادته!  
 
 ذاك سر من اسراري   لا يفقه إلا من عبد ربه ..... توقف الشيطان هنا ....  ثم قال  .. لا تغضب مني ياحبيبي  أنا معك دوما اجري في  نفسك كما يجري دمك ... وعدم ظهوري من اجلك!  فغيابي عنك ترويض لك قبل دخولك المعركة !  وأنا ذهبت في غيابي عنك  الى كل اعواني  من شياطين الإنس والجن  وأطلعتهم على رغبتك في ارتقاء سلم المجد ، ووضعت لك دستورا تسير عليه! فقلت : هات الدستور  لكنه فجأة اختفى.  ...اختفى  ليال عديد كنت اتقلب فيها على أحر من جمر الغضا!
 
 وفي ليلة ظلماء   افتقد فيها البدر ،هبت رياح شمال  صرصر عاتية   ظهر  وليي  حاملاُ مرآة  لامعة  ...  وضعها أمامي  وقال انظر في المرآة  سترى الملايين  حاملة قلوبها على أكفّها  فداء لك ! نعم رأيت الممثلين والممثلات من سيدات المجتمع وإبطاله  ، والكتبة والأدباء والعلماء  يقودهم  احد أعوان الشيطان  يصفقون لي ويهتفون باسمي!  وفجأة قذف بها على الأرض  فتناثرت  متكسرة.   صعقت  وصرخت عليه ... لماذا؟   قهقه  ثم قال:   ما هذه الإ صورة بسيطة لما ينتظرك من مجد وعز، إن انت ... فقلت له ممسكاً بتلابيبه النارية  قائلا: لا تذهب هذه المرة أرجوك وإلا عدت الى  الل... وضع يده النارية على فمي  فأحسست  بلهيب المجد  يسري في أنحاء جسدي فانتفخت سحري تهيا وخيلاء،  وقال أرجوك لا تلفظ ذاك الاسم  ، سأعطيك الدستور لكن بعد أن  تعاهدني على طرق كل ابواب الكفر متعدد الظلمات! وتكفر بالله ! قلت ويلك انا مسلم ! أتريدني أن أرتد!  قال : تكفر أمامي    وسألبسك قناع التقوى  تظهر فيه امام الناس... عند ذلك كفرت بالله ربي كفرا شركياً ،وعاهدت شيطاني على الإيمان به  وعبادته  والأخذ بأوامره ونواهيه ، فقال هيا عبدي الرجيم  خذ عني منهجك ودستورك:
 
 أولاً: باسم الدفاع عن الإسلام تهاجم الإسلام  وباسمه تدس أفكارك  التي تجدها في برتوكولات حكماء صهيون  عليك بحفظها وتطبيقها : احفظهم يحفظونك!  اقنع الناس ان التقدم ل ايكون الا بفصل الدين عن الحياة  ، قل لهم أن الدين مجرد طقوس  ، مهمتك تقويض الاسلام باسم الاسلام ! كثر أحزابه  واعمل على تفتيت المسلمين  شيعا واحزابا  كل حزب بما لديهم فرحون! انا الشيطان هزمت كل اتباع الديانات  مذ كانت إلا  الاسلام  فكلما خبت ناره هبت من جديد! 
 
 ثانياً: لا تستشهد بشيء من القران والحديث إلا وتدخل التحريف عليه وتفسره على هواك وعليك  بأفكار البشر  البراقة كالتقدمية والعلمانية  والتحرر  لأن تلك الأفكار مبنية على الهوى  لأنك ستخرج بها الناس من النور الحقيقي   ألى الظلام البراق ، فما يراه المؤمنون نوراً فهو ظلام بالنسبة لي ، وما يرونهم ظلاماً فهو نور بالنسبة لي: اليست هذه حرية اعتقاد لا اكراه فيها!
 
ثالثا:  عليك ان تكون قوي الحجة  تدير معركتك بحكمة  باسم الاعتدال والإنسانية  وهذا النهج يعتمد على ركنين :
الركن الأول : الرأي العام العالمي   ،فأنت لا يهمك رأي الله  ولا دينه  ، فلا تكن مع الله!  وكن دائما مع الرأي العام العالمي   ، ولا تشعرن بالحرج  اذا تنازلت عن حقوقك  في سبيل كسب الرأي العام العالمي!
 
الركن الثاني :  هو التعصب الشديد للكفر وأهله. فعضد عليه بالنواجذ ،وكن دائما  متعصبا لا يغمز لك قناة ، كن شديد اللهجة عند مناقشة امر ديني . فرّط بأمر دينك فعين الشيطان ترعاك ! لكن اياك والعداء العلني للدين  :  استعن بمن  يضمرون الكفر ويتظاهرون بالإسلام  :  فرط  في جنب الله   كثيرا ، و  عليك بدعاة على ابواب جهنم من اطاعهم قذفوه ،اقنعهم ان اللباس الساتر ليس من امر الدين ،و بجهودك المثمرة بتوفيقي وزخرفي القول لك اتوق الى اليوم الذي تجعل الناس يمشون عراة  ويعظون الناس فهم عراة : اقنعهم أن الايمان في القلب   لا ينعكس على الجوارح ولا يصدقه العمل! اقنعهم  ان اللباس  حرية شخصية ، وليس  على الخطيب أن يقوم في الناس خطيبا وهو عار! أو لابسا كالثعلب لباس الواعظين!  قل لهم أن للثعلب دينا رغما عن أمير الشعراء! شارك في المناسبات الدينية و اهرع الى الصف  الأول ناد بصوت عال  اذا حضرت الصلاة ! لكن اطلق بصرك في النظر الى المحرمات  ! 
 
 استغل كل مناسبة  أن كنت في حديث مع حسناء دغدغ عواطفها الجنسية ! ثم ان حضرت الصلاة فكن في الصف الأول!   شارك بالمناسبات الدينية وارقص في عيد ميلاد نبي الاسلام.كن معتدلاَ  شديد التفريط بأمور دينك حريصا على الرأي والرأي الآخر... فكلما كنت شديد التفريط بدينك كنت  اكثر اعتدالاً في عيون جاهلية القرن الواحد والعشرين ...
 
 اما الخطوة الأولى في تطبيق  منهجي   فهي المرأة : العب بعواطفها ، منيها بالحرية  حرية تسمح لها ترقص عارية وتخرج في اعلان مع صورة حذاء ، باسم حريتها جردها من انسانيتها ، اجعلها مجرد دمية  للهو والمجون! جردها من فطرتها الانسانية  واستدرجها الى دروب الفسق : فغناؤها نهوض بالمراء نحو الرقي , ورقصها تحقيق لسعادتها ،  وافلامها الجنسية مجرد تمثيل يعالج مشكلات المجتمع! اعطيها حريتها المطلقة  .. اتدري لماذا ؟ ان نجحت في ذلك تفككت الاسرة  وسار المجتمع في الطرقات التي أريدها!  
 
 وعليك بأمرين لا ثالث لهما:  راقب الشيطان في كل حركاتك وأفعالك  وإياك ان تحيد عن المنهج  والإ مصيرك معروف!و الأمر الثاني  والمهم :  فلا تأمنن  الذين تجردهم  من دينهم وعقيدتهم  لأن من يتخلى عن دينه وعقيدته  في سبيل الدنيا  لا تؤمن بوائقه فهو سهل الانقياد لغيرك  خاصة ان تحول الى آكل تبن همه كرشه وفرجه فربما يجد تبنا اكثر عند غيرك  ! لذلك ابقه مشغولا بالدنيا وتبنها  وخوّفه من الفقر دائما  حتى وان كان أغنى الأغنياء , ولا تنس الرأي العام العالمي.
 
والآن لابد من  ختمك بخاتم الكفر: قفز الشيطان على راسي وبال في اذني   ختم الشيطان على قلبي  وغلّفه بغشاوة شيطانية   وقال لي أنت الآن اصم أبكم أعمى    لا ترى الحق ولا تسمعه  ولا تعود إليه. ثم بصق في وجهي    فتناثر  رذاذ بصاقه الناري  على وجهي  فتطايرت  من حولي  زخارف الكفر  وروداً وأزاهير من شتى الألوان  وضحكت لي الدنيا كأني خلقت من جديد!
 
 امسكت القلم   فكتبت مقالاً  تباكيت فيه على  مكانة المرأة  في المجتمع وتسلط الرجال عليها  وهضم حقوقها  وتجريدها من انسانيتها ، وانه لابد من تحريرها    والى ما ذلك  من كلام يصب في مصلحتها ... تم نشر المقال  ... وفي ليلة  موحشة  ... رن جرس الهانف فرفعت السماعة وإذا بصوت نسائي رخيم  لطيف  يطلب موعدا  لزيارتي .  سررت جداً بالطلب  ... طرت شوقاً اليها  فقد أوحي لي صوتها أنها خَوْد هيفاء  هضيم الكشح ريا المخلخل  ممشوقة القامة  رقراقة بضة.  .. حانت ساعة اللقاء  ... قرع جرس البيت   فتحت الباب  فإذا  بإمرأة  وركاء  مفاضة  وطباء  طرطبة   يلامس نهداها بل "دِرتها"  ركبتيها  ويكاد  عجزها يلامس    كتفيها...  طلت وجهها بشتى انواع المزيفات  ولونت شعرها كي تخفي شيبها بأصباغ  رمادية و بنية فاتحة  ، اخاديد وجهها غائرة في وجهها رغم محاولات الشد والتجميل  فما  افسد الدهر لا يصلحه العطار...  كدت أن ابصق في وجهها وأطردها وألعنها وألعن حريتها  لكن صاحبي الشيطان  وسوس لي  قائلا ويلك ادخلها فهي الوسيلة الى غيرها. 
 
 دخلت وتناقشنا   حول أفضل السبل للنهوض بالمرأة العربية    واتفقنا على  الترويج لأفكار جديدة مبدعة  مثل أحياء الرقصات الساهرة   وحفلات  كثيرة تحيها فنانات " من غير هدوم"   ولا ملابس ...  فالجود من الموجود ... عدد من الشعارات البراقة    وسيقان عارية ونهود مكشوفة   " ورقصني " يا جدع!
 
 ودعت  تلك الصهصلق ... وتنفست الصعداء..و دبجت مقالا   أنادي فيه بالديموقراطية وتمكين المرأة.... ردود تثني علي  وتمجد فعلي على صفحات الجرائد...  فصعرت خدي للناس ومشيت في الأرض مرحا  ونظرت اليهم نظرة فوقية  متعالية  فاهتزت الأرض فما من احد مثلي عليها...
 
 وليلة البارحة   كنت في غرفتي وحيداً  فاذا بخليلي   يظهر لي قائلاً : قم  وانظر  . لقد اعددت لك حفلاً مهيباً  ، الليلة  تتوج  وتحصل على جائزتي نوبل  للآداب والسلام معاً  .  لابداعك الأدبي ودفاعك عن حقوق الانسان والرأي العام العالمي! نظرت  عبر النافذة فإذا  طوابير طويلة من البشر  ، وطبول تقرع  وموسيقى تعزف . احضر لي صديقي حلة سوداء قشيبة  موشاة بعروق من ذهب  وحبات الماس   ، والبسني تاجا ماسياَ ... بعد أن تجهزت ....خرجت واثق الخطى مرفوع الرأس  واذا بفارسين   بلباس جندي روماني  غارقين في الحديد، بيديهما رمحان  لامعان،   يسيران أمامي , وأخذت الجماهير تصفق وتهتف: عاش الأديب المبجل , عاش النطاسي البارع , عاش محرر المرأة  !  سرت  رويدا رويدا بخيلاء وكبر قاصدا عربة  مذهبة العجلات  يجرها جوادان  معقود بناصيتيهما   تجيان  براقه    ... سارت بي العربة نحو الشمال سيرا بطيئا و صفوف الهاتفين على   جانبي الطريق   ... وصلنا مكان الاحتفال .. فاذا بمنصة عاليه عليها عرش من  زبرجد ولؤلؤ ومرجان  ... جلست عليه ... سجدت ثلة  من الحرس أمامي  ... ازددت تيها وعجبا وكبرا ....  ألقى عريف الحفل كلمة ترحيبية سالت فيها دموع الولاء والإخلاص ... هتف باسمي  وقال بالروح  والدم نفديك يا فهمان .... كدت  أن أجهش بالبكاء ... وسوس لي صديقي ... لا تصدق المنافقين  .. فكم زعيم هتفوا له    ... وتخلوا عنه في حالكات الليالي ....  
القيت كلمة خلتها دوت في  صدور الحاضرين دوعي الرعد في آفاق السماء .... شكرت الحاضرين ووعدتهم بمواصلة الدرب الطويل الشاق نحو الحرية والمساواة والإخاء ...
 
  قال عريف الحفل : آلت المراة إلا ان تكرّم محررها  ...  فالمرأة عرفاناً منها بالجميل ستسلمك  الجائزة ... صفقت الجماهير ..... رايتها من بعيد   شعاعا من نور   يسري في الظلمات   ثم يكبر ويكبر حتى غمر الكون بنوره الباهر .... ضوء شديد لم أكد ابصر منه أغمضت جفوني لحظة ممنيا النفس بقبلة من هيفاء غيدا حصانا من أكف اللامسينا .... فتحت جفوني  ..  فإذا بالطرطبة ذاتها التي زارتني في البيت ... جفلت مرتاعا وقفزت عاليا في الهواء    شعرت اني أهوي نحو الأسفل كنت اغرق أغرق  في ماء آسن كبريتي الرائحة ... فتحت فمي  امتلأ طينا   تذكرت اني نسيت ساعة أني طين ....    خارت قواي فقد سقطت من على صخرة شاهقة في هذه الحفرة الآسنة
 هتفت مناديا في الظلمات .... لا اله إلا انت سبحانك أني كنت من الظالمين .....  


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد