جزى الله خيراً مَن يدعون إليه تعالى، من أئمة الصلاة، والمؤذنين، والوعّاظ، والخطباء، ومدرسي التربية الإسلامية وناشري ثقافتها، والمحاضرين في مجالات شريعتنا المتعددة، ومقدمي البرامج الدينية، إلى جانب المنشدين، والمقرئين، والمصلحين بين الناس ... فهم يسعون إلى تعليمهم أمر دينهم الإسلامي، وإرشادهم إلى ما يصلح حالهم في دنياهم لأجل آخرتهم.
ودائماً ما ينظر الناس إلى الدّعاة أنهم القدوة والمثل، وربما كلمة واحدة من أحدهم، بل نظرة عابرة، تقرب فلاناً إلى الله، أو تبعد «علّاناً» عنه تعالى؛ مما يعني أن لكلّ حركة أو سكنة أو قول أو لِبس منهم، أثره في المتلقي، ومن ذلك الثغرُ إذا تبسّم والوجهُ إذا عبس.
يقول رسولنا الكريم، "محمّد بن عبدالله"، صلى الله عليه وسلم: "تبسّمك في وجه أخيك صدقة"، و"إن الله يبغض المعبس في وجوه إخوانه"، و"لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلق"، و"إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق".
في ضوء ذلك، هل تعاني أمّتنا "أزمة ابتسامة" في دعاتها؟ وبصوغ أكثر سهولة: هل دعاتنا يبتسمون أم يعبسون؟
من خلال متابعتي لدعاتنا، وجهاً لوجه، أو عبر شاشة التلفاز، أو عبر بوق المذياع، أو عبر سمّاعة الهاتف، أو عبر وسائط الاتصال والتقنية الحديثة ... أستطيع أن أستنتج أنهم ثلاثة أقسام في ذلك: العابسون، والمبتسمون، والمبتسمون في مواضع العابسون في أخرى.
فالدّعاة العابسون هم الأغلبية، فتجد بعضهم متشنجين ومشنِجين، ومتصلبين ومصلِّبين، وغاضبين ومضطربين، تسمع لهم ولا تفهم منهم، أو تفهم منهم ولا تقتنع بهم، أو تقتنع بهم ولا ترضى عنهم، وغالباً ما ينفر الناس منهم. وممّن يمثل هذه الفئة، بعض من المنضوين في أحزاب أو تيّارات أو تنظيمات، وأيضاً مَن هذا طبعه، ومَن يعاني هموماً ويواجه مشكلات.
لكن، هل ذلك مبرر لانعدام الابتسامة على شفاههم؟ يجيب عن ذلك ("شمس الدين حافظ": "ابتسم ولو كان القلب يقطر دماً")، و("بيبليوس سيريوس": "الابتسامة إهانة للمصيبة")، وهذان المفكران وجّها بذلك على إطلاقه، والعمل به ألزم لدعاتنا من غيرهم، فهم المؤمنون الصابرون، وحاملو ليس همّهم وحدهم، وإنّما ـ أيضاً ـ همّ الأمّة. وهذه الفئة مدعوّة إلى التطبّع على الابتسامة رحمةً بجمهورها.
وحسناً فعل خطيب جمعة في عمّان: صعد المنبر مبتسماً ونزل مبتسماً، ولم يصدّق المصلّون حينما عرفوا أنّه كان قد هاجمه في بيته ـ قبل لحظات من الأذان ـ مَن يبغضه، بشتمه تارّة، ومحاولة ضربه، تارّة أخرى.
وأمّا الدّعاة المبتسمون ـ "كثّر الله من أمثالهم" ـ فهم صيّادون مهرة؛ يقول الإمام "ابن عيينة": "البشاشة مصيدة المودّة"، كما أنّهم الأقرب إلى قلوب المتلقين؛ يقول "لابرويبر": "ليكن وجهك باسماً وكلامك ليناً، تكن أحبّ إلى الناس ممّن يعطيهم الذهب"، في حين يقول "فولتير": "الابتسامة تذيب الجليد، وتنشر الارتياح، وتبلسم الجراح؛ إنّها مفتاح العلاقات الإنسانية الصافية".
وقد اشتهر في عالمنا الإسلامي والعربي، دعاة عهدناهم مبتسمين أو بشوشين، ومنهم الشيوخ: "محمّد متولي الشعراوي"، رحمه الله، و"عمرو خالد"، و"محمود المصري"، و"محمّد جبريل"، والدكتور "محمّد راتب النابلسي"، والدكتور "جاسم المطوِّع"، والدكتور "محمّد بن فهد الثويني"، والدكتور "طارق حبيب"، والحبيب ("علي زين العابدين" الجفري)، والدكتور "محمّد بن عبدالرحمن العريفي الخالدي"، و"سليمان بن عبدالعزيز الجبيلان"، والدكتور "عزيز بن فرحان العنزي"، مدير مركز الدعوة والإرشاد في دبي، والأستاذة الدكتورة "عبلة الكحلاوي"، والدكتورة "ناعمة الهاشمي"، مضافاً إليهم المنشدون: "راشد العفاسي"، و"المعتصم بالله العسلي"، و"ماهر مصطفى زين"، و"مسعود كرتس"، و"عبدالقادر قوزع"، وفريق "طيور الجنة".
ومن الدّعاة المبتسمين على المستوى الأردني، الشيوخ: الدكتور "إبراهيم عبدالحليم زيدالكيلاني"، وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأسبق، والدكتور "عبدالرحمن بْداح"، مساعد الأمين العام للوزارة نفسها لشؤون الدعوة والتوجيه الإسلامي، والأستاذ الدكتور "أحمد إسماعيل نوفل"، والأستاذ الدكتور "أمجد ميرزا قورشة"، والأستاذ الدكتور "محمّد أحمد حسن القضاة"، المحاضرون في كلية الشريعة في الجامعة الأردنية، والأستاذ الدكتور "حمدي مراد"، المحاضر في جامعة العلوم الإسلامية العالمية، والأستاذ الدكتور "محمّد عقلة الإبراهيم"، عميد كلية الشريعة في جامعة اليرموك، والأستاذ الدكتور "محمّد علي العُمَري"، المحاضر في الكلية ذاتها، والعميد الدكتور "نوح مصطفى الفقير الربابعة"، عميد كلية الأمير حسن للعلوم الإسلامية، والدكتور "عبدالله محمّد أحمد مجلي الربابعة"، مفتي إربد، والمذيع الدكتور "نسيم أبوخضير".
وهناك فئة من الدعاة يبتسمون في مقامات معينة، بحسب السياق الذي يتحدث واحدهم فيه، وما إن ينهي قصته، حتى يعود إلى طبيعته، مثل الدكتور "عايض القرني"، والشيخ "نوح علي سلمان القضاة"، رحمه الله.
هذا على صعيد الأفراد، وأمّا على صعيد الجماعات، فإنّ "رجال الدعوة والتبليغ" لا تفارق الابتسامة والبشاشة وجوههم، يليهم "الصوفيون"، كما أنّ الدعاة العاملين في القطاعات العسكرية والأمنية، في الأردن، يصيبون الابتسامة، غالباً، على الرغم ممّا تقتضيه حياتهم الوظيفية من شدة وقسوة.
وممّا يساعد على بشاشة الوجه وتوليد الابتسامة: النية الصادقة، وضبط الانفعالات، والارتواء والشبع، والراحة الجسدية والذهنية والنفسية، والعلم الغزير والتمكن، والنظافة وحسن الهندام.
والتبسم كان أكثر ضحك الأنبياء، ففي صفته، صلى الله عليه وسلم: "كان جلّ ضحكه التبسّم"؛ لأن التبسم أقل الضحك وأحسنه، قال تعالى: ({فتبسّمَ ضاحكاً من قولها}. النمل: 19).
وقال الإمام "علي ابن أبي طالب"، رضي الله عنه: "إذا اجتمع المسلمان فتذاكرا غفر الله لأبشِّهما وجهاً".
وفضل أحد الشعراء البخيلَ البشوشَ على الكريم العابس: "إذا كانَ الكريمُ عَبوسَ وجهٍ *** فما أَحلى البشاشَةَ في البخيلِ"، وعدّ "ستيفان جزال"، "الابتسامةَ، واجباً اجتماعياً"، في حين قال "شكسبير": "أن تشق طريقاً بالابتسامة، خير من أن تشقه بالسيف".
"الابتسامة طريقك الأقصر إلى قلوب الآخرين"، هكذا يقول التايلانديون، فلا تقبض وجهك سيدنا الشيخ، ولا تبخل بها علينا.