الإعلام الجديد سلطة دون مسؤولية .. الكويت نموذجا

mainThumb

06-11-2012 10:33 AM

 الفاسق مجازا هو من يأتي بخبر كاذب، وقد جاء في التراث الإسلامي أن لا يستمع أحد لأهل الفسق، حيث إن أخبارهم دائما ما تحمل الضلال والضبابية والنقل المحرف، وأنتقل من التعميم إلى التخصيص لأبقى في الكويت التي شهدت وتشهد حراكا سياسيا في مرحلة حاسمة من التطور العربي والإقليمي، آخره كان مساء الأحد الماضي.

 
في إحدى المظاهرات غير المخطط لها، الأسبوع الماضي، انطلق أحدهم بسيارة فارهة ليصدم شرطيا ومصورا صحافيا، ولا أريد أن أدخل هنا في الأسباب التي دفعت ذلك الشخص لفعلته النكراء تلك، أو تفاصيل التجمع، ما أريد أن أعالجه هنا هو تكييف الخبر ومكان نشره؛ ففي بحر دقائق قليلة كانت الصورة (صدم الشرطي والمصور) قد دارت على الإنترنت لعشرات الآلاف من المشاهدين، ومعها خبر يقول إن «السيارة تحمل لوحات غير كويتية»! وإن سائقها يعمل «في أحد الأجهزة الأمنية الحساسة»! وصدق ذلك القول ربما كل أو معظم من قرأ وتابع الخبر على الإنترنت!
 
وبعد فترة غير قصيرة، جاء التكذيب؛ بأن السيارة محلية، وأن الشخص لا علاقة له بالأجهزة الأمنية.
 
وأتابع بانطلاق خبرا على أحد أكثر برامج التواصل الاجتماعي تداولا في الكويت («تويتر»)، يقول على لسان أحد السياسيين الكويتيين إنه يحذر الجهات الأردنية من إرسال قوات «عسكرية إلى الكويت»، وتكرر إرسال ذلك الخبر من أكثر من شخص، وانطلق ليصل مرة أخرى إلى عشرات الآلاف من القراء متابعي تلك الوسيلة، وتبناه بعضهم على أنه حقيقة غير قابلة للنفي، والحقيقة أنها إشاعة ليس لها أي أصل على أرض الواقع، أما الحديث الذي انتشر في مكان آخر هو عن تدخل «سعودي، إماراتي»، فقد انتشر إلى حد أن القدرة على تكذيبه ضعيفة حتى ولو جاء التصريح من وزارة الخارجية الكويتية ذاتها التي كذبت الخبر، لأن البعض يريد أن يصدق، أو فاته على وجه الإطلاق قراءة ذلك التكذيب الذي نشر في وسائل الإعلام السيارة، ولم يلحق بهذا الجو من تبادل الأخبار فائق السرعة («تويتر»)، فقد بقيت الإشاعة عالقة في أذهان كثيرين!
 
ليس من المقبول في هذا العالم الذي نعيش أن يُمنع أحد من أن يضع خبرا أو يصدر تصريحا أو يكتب مقالة تبين وجهة نظره، تلك الأيام انتهت بلا عودة بوجود وسائل الإعلام والاتصال الحديثة، كما من المتوقع أن يميل بعض السياسيين من أجل تمرير أفكارهم في صراع سياسي محتدم اللجوء إلى «شيء من الفسوق الإخباري»، وأصبح الكل اليوم يقول، بعلم أو بغير علم، ما يريد أن يقول، وقد قيل إن أكبر أعداء المعرفة ليس الجهل، ولكن من يعتقد أنه يعرف.
 
كل ما تقدم مقبول في إطار الصراع السياسي، ويمكن التعايش معه. الناقص في تلك المعادلة شيئان؛ الأول هو ما أسميه «الفلتر»، الذي كان يجب أن يحمله كل مواطن، وهو «فلتر» له علاقة بمنهجية التفكير وطرق تلقي الأخبار وتمحيصها، والشيء الثاني أنه لأول مرة ربما في تاريخ الاتصال، يحصل الناس على سلطة «إعلامية» دون «مسؤولية تذكر». نعود إلى «الفلتر». في مجتمعات عربية، ومنها المجتمع العربي في الخليج، هذا «الفلتر» يتم تركيبه وتفعيله، مع الأسف، لا في مناهج التعليم ولا في العمل الإعلامي العام المؤسسي.
 
فكثيرا ما نقرأ تحليلا موسعا ينتهي في نهاية المطاف بنظرية مؤامرة أو حتى «هجمة صهيونية أميركية»، وتقع مثل هذه التحليلات والأخبار على عقول جاهزة للتصديق، لأنها لم تحصن ضد ما تسمع أو تقرأ من خلال منهج يزن الكلام بالعقل والمنطق، على الرغم مما نقرأه في تراثنا ونردده: «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة». هذا النص يعتمد على قاعدتين؛ الأولى: «تبينوا». أي تحققوا ودققوا وقارنوا، والثانية: «تصيبوا قوما بجهالة». أي تتبنوا رأيا يتحول إلى فعل، قد يقودكم إلى الظلم والفجور، وربما الفتنة التي هي أشد من القتل بجهلكم بالحقيقة.
 
منهج التأكد من الخبر ربما يمكننا تحقيقه من خلال وسائل الإعلام المؤسسية، كالصحافة والتلفزيون وما في حكمها، حيث أصبحت هناك قواعد مهنية وقانونية تحكم عملها، إلا أن جيلا جديدا يجتاح العالم، ومنه عالمنا، هو جيل «تويتر» و«فيس بوك»، وهو الجيل الذي يُمكّن أي شخص من أن يكتب أي موضوع في أي وقت، يتهم أو يشنع، دون التدقيق فيما يقول، فيصبح الأمر هو ما يمكن أن يعرف بـ«تخبير الإشاعة» أي جعل الإشاعة خبرا مؤكدا. يلعب هنا النقص المنهجي الذي لم نعد له الأجيال الجديدة من خلال التعليم أو الإعلام أو حتى التربية المنزلية، بأن تفكر بعقلها وتقارن الأمور بالمنطق وتتساءل عن خلفية الخبر ومدى انسجامه مع العقل والمنطق. ذلك المنهج لم يُقدم على مقاعد الدراسة، ولم يناقش إعلاميا بما يستحقه من أهمية.
 
تبنت بعض السلطات في السابق فكرة «ترك الجهلاء بجهلهم»، وكانت عملية مناسبة سياسيا لتلك السلطات، فانطلق أنصاف المتعلمين يهذرون ويهذون على العامة بما ليس لهم به علم ودراية، في مجالات كثيرة، ليس أقلها الخوض في الدين أو الخوض في السياسة.
 
في ثمانينات القرن الماضي عندما اشتد صراع عقد الأزمة (بين عامي 1979 و1989) في أفغانستان، أسبغت وسائل الإعلام العربية، بما فيها منابر المساجد على المجاهدين الأفغان من الكرامات ما لم يتحقق حتى مع كبار الصحابة، ومع ذلك لعبت الآيديولوجيا مقرونة بالجهل على ترويج تلك المقولات، التي منها أن جثة المقاوم الأفغاني لا تتعفن، وكان الناس يصدقون ما يقال لهم! أول ما يلقيه كلام «الفاسقين» هو العقل.
 
لقد تم اختطاف جيل كامل إلى ذلك النفق المظلم الذي انتهى بمجاميع تكفيرية أزاحت العقل جانبا واعتمدت على الكرامات والتفكير الخرافي المنقطع عن العقل. وزعم أن هناك موجة جديدة تزيح العقل من جديد إلى خرافات سياسية مختلفة تنطلق في فضائنا العربي، أساسها إبعاد المنطق لإحلال العاطفة العمياء من خلال وسائل الاتصال الحديثة.
 
الفشل الأكبر الذي تركنا الجيل الجديد يتخبط فيه لا يزال قائما؛ بأن حرمناه - لأسباب سياسية ومصلحية - من استخدام العقل والتدريب على المحاججة والاعتماد على الأدلة القائمة على البرهان. ولقد تبين اليوم أن الثمن الذي تدفعه الأوطان، جراء ذلك الحرمان، أغلى بكثير من مكاسب الأرباح التي تحققت جراء تغييب العقل الذي وهبه الله للإنسان كي ينتفع به.
 
آخر الكلام:
 
قيل قديما: «عدو عاقل خير من صديق جاهل»، والعقلانية هي تدريب منهجي تتفاعل فيه المعرفة مع عوامل المهارة والموقف الإيجابي من الحياة.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد