الربيع العربي ومعركة المصير

mainThumb

17-08-2013 06:37 PM

واقع الدول العربية قبل الربيع العربي والتي امتازت جميعها دون استثناء بنظام سلطوي رئاسي وراثي مطلق الحكم مهما كانت المسميات، وعاشت الشعوب العربية مهضومة الحقوق تعاني من الفقر والبطالة والتهميش ، والأخطر كانت خاضعة ولا زالت لثقافة مبتورة ومشوهة تقودها إلى زيادة التعايش مع الظلم الواقع عليها وقبولها بالأمر الواقع من الحرمان والاستبداد لوهم قد غُرس في عقليتها ووجدانها الأمن والأمان والاستقرار بمبررات وهمية بأن هناك مؤامرات واستهداف خارجي للأمة وهي تهمة جاهزة لأي طرف يسعى إلى التغيير بـ "أجندات خارجية" ولا ندري من هو الخارج الذي يستهدفنا، هل هو الكيان الصهيوني الذي يحتل فلسطين اغتصاباً؟ فإن كان هو فكيف يكون السلام الخيار الاستراتيجي لهذه الأنظمة؟! وكيف تبقى التهمة تلتصق بمن يريد التغيير والتحرر!! أما إذا كانت الأجندات الخارجية لأمريكا أو غيرها من الدول الغربية والشرقية فكيف تقيم هذه الأنظمة من العلاقات ما يصل إلى التحالف الأمني الاستخباري ليكونوا جزءا من أمن هذه الدول؟! فكيف تبقى هذه التهم ملتصقة بمن يطالب أو يسعى إلى التغيير والتحرر من التبعية التي إنقادت لها هذه الأنظمة وليس لمصالح وطنية أو مصلحة مجموع عربي وإنما في حقيقتها للحفاظ على بقائها وعلى استمرارية إغتصابها لسلطة الشعوب العربية وحرمانها من التطور الطبيعي كما غيرها من المجتمعات في العالم وممارستها للحياة الكريمة الانسانية.


 هذا النهج أوجد في الدول العربية ما يسمى الدولة العميقة التي ترسخت جذورها بمساعدة الأنظمة لضمان استمراريتها والتي تحالفت مع رأس المال لتشكل طبقة من العلاقات النخبوية المعقدة مرتبطة بمصالحها من خلال إدارتها وقيمها التي فاحت منها رائحة الفساد، وبالتالي منع تكون حالة شعبية وقيادات قادرة على إحداث التغيير بإعادة السلطة إلى الشعوب وتمكينها من السيادة على مقدراتها ومؤسساتها وصياغة منظومة قيم جديدة توافقية حول مشروع إعادة بناء الدولة المدنية الديمقراطية ومؤسساتها مما يستوجب التوافق على الدستور وقواعد اللعبة السياسية وفتح الآفاق لإنطلاق الشعوب نحو التقدم والإبداع، وليس من طرف أو مكون سواء سياسي أو اجتماعي إلاّ وعانى من الظلم بالتعذيب والقتل والسجن والنفي بحجج واهية "لحماية الأنظمة" فأي نظام هذا الذي يُحمى وقد استعبد الشعوب وحرمها من أبسط حقوقها الإنسانية بالحرية والكرامة ولم يمنع الجوع عنها.


 هذا واقعنا الذي أغمضنا عيوننا عنه طيلة عقود، مورست علينا خلالها سياسة تضليل جعلت ثقافة العدل وسيادة القانون والمؤسسية والديمقراطية وحقوق الإنسان,ارهابا ومن يطالب بها يُنعت بـ "الإرهاب" وغرس ثقافة أخرى تمارسها الأنظمة ودولها العميقة فتعاطت معها الشعوب هي ثقافة الظلم والإستبداد والفساد والواسطات والمحسوبية ونهب ثروات الشعوب لتسمى "الإستقرار".
الربيع العربي الذي كان نتيجة حتمية وسياق تاريخي للمعاناة التي رضخت لها الشعوب العربية طيلة العقود الفائتة في ظل أنظمة ظالمة وفاسدة ومستباحة في قرارها وخياراتها لمصالح الخارج وأعداء الأمة، هذا الحراك الاحتجاجي على الظلم والاستبداد ليتحول إلى حالة شعبية فريدة على مرّ التاريخ من حيث الفكرة والعدد فيتفاجأ بها الجميع فتصنع بداية ثورة شعبية حقيقية ولكن شاءت أيادي الغدر من أعداء الأمة والأنظمة من تشويه هذا الربيع وحرفه عن مساره في أسوأ سيناريوهات عرفتها البشرية خوفاً على كراسيهم وديمومة أمن الكيان الصهيوني الذي يقفون على أبوابه حراساً وحفاظاً لمصالح الآخر الذي سعى وسيبقى بكل قدراته يحول دون تكون مشروعنا العربي الذي يُحررنا من التبعية والعبودية ويهزم الظلم ويُحقق العدالة ويوجه بوصلته إلى حيث يجب أن تكون، وسأدخل إلى بعض التفاصيل في هذه المحطة لتوضيح بعض محطات التى مرّ بها الربيع العربي :


_اليمن والمبادرة الخليجية التي دعمتها أمريكا وحلفاؤها وروسيا حيث أثبت اليمنيون قدرة هائلة على الصمود السلمي أمام الرصاص وهم يمتلكونه كما النظام، والسبب عدم اكتمال تكون الحالة الشعبية القادرة على فرز قياداتها من رحمها، رحم الظلم والمعاناة والتهميش وهو مالم يكن في سابقتها تونس ومصر، إلا أن التخوف كان موجوداً لأن التتالي في حدث الربيع العربي من دولة إلى أخرى سيؤدي إلى تفادي أخطاء من سبقها في هذا العبور وقد تمثّل هذا الاستدراك لبعض الأخطاء في ربيعي تونس ومصر فكل واحدة منها استدركت خطأ الأخرى ولكن لم يعِ شعبا مصر وتونس ضرورة فرز قيادات شعبية جديدة بعيداً عن كل الأطر السياسة الموجودة لضمان العبور بربيعهم برّ الامان وهذا ما استدركه الغرب وخصوصاً امريكا ومن خلفها القوى المؤثرة في المشهد العربي ليتحول إلى حراك خلف قيادات تخدم في واقعها مصالح حزبية ضيقة وذاتية بعيداً عن مصالح الشعوب في تجاوز المسببات له وتمكين الشعوب العربية من الانخراط في طبيعته البشرية لممارسة تطوره الطبيعي.
_ليبيا وعسكرة الثورة والتدخل العسكري الخارجي لتظهر علامات التدخل الخارجي المباشر في طبيعة حركة الربيع العربي وحرفه عن مساره سواء السلمي أو الهدف الذي يسير إليه بتمكين الأطر السياسية من قيادة الثورة واتخاذ القرارات المصيرية نيابة عن الحالة الشعبية وبالتالي إجهاض تكون القيادات غير المرتبطة بمصلحة حزبية أو رؤى وتحالفات إقليمية أو مصالحية مع بعض الدول المؤثرة بعيداً عن المصلحة الشعبية في بناء كينونتها وعودتها إلى سيرورتها التاريخية بالتطور والبناء للدولة المدنية العادلة الممثلة لكافة أطياف الشعب.


_سورية هي حالة أخرى استدراكية من القوى المؤثرة في المنطقة وفي مقدمتها أمريكا حيث كانت بعض نتائج الربيع العربي بدأت بالظهور بأن حدثت أول حالة ديمقراطية عربية نزيهة بالممارسة فأفرزت التيار الإسلامي في مصر وتونس ومن ثم ليبيا وبالتالي خوفاً من تطور هذا الفرز الطبيعي لخيارات شعوب هذه الدول من تكون حالة جديدة للحالة الشعبية وظهور تحالفات لدول تحكمها ايديولوجيا عقائدية واحدة وبالتالي ستكون مؤهلة في المستقبل بعد تحقيق الاستقرار في حده الأدنى إلى ولادة إطار وحدوي جديد لدول كانت قبل فترة وجيزة منقسمة على بعضها وهذا في حقيقته لا يخدم مصالح تلك القوى المؤثرة في المنطقة وفي مقدمتها أمن وديمومة الكيان الصهيوني وعليه كان لا بُد من تدارك الأمر قبل فوات الآوان فبدأت عملية إدخال التنظيمات المتشددة ذات المرجعية الإسلامية وفي مقدمتها عناصر القاعدة بإشراف الدول المجاورة لسورية وخاصة تركيا والأردن فكانت هذه الدول تقوم بتأمين الطرق وتمرير السلاح إلى الداخل السوري لإحداث وسم جديد في الربيع العربي وهو ظهور التشدد الإسلامي الموصوف بالإرهاب وهي فكرة عربية خالصة سعت جاهدة إلى إقناع الغرب بجدواها في وقف الربيع العربي في سورية كمحطة آخيرة ليكون بعدها الانقلاب على نتائج الربيع العربي في مصر وتونس والمتمثلة بمكسب الديمقراطية التي يمارسها الشعب في إختيار حاكمه وممثليه في مجالس الشعب "البرلمانات"، فتم صبغ الربيع العربي بالدم والإرهاب فأحدث الإنقسام المجتمعي الشعبي فأصبحت الحالة الشعبية التي كانت في بدايات دخولها سيرورة التكوين والذي إنعكس على مفاعيل القدرة الشعبية بالتغيير لتصبح الحالة الشعبية بعد الإنقسام في حالة نزاع واقتتال فيما بينها لتحدث تكويناً جديداً في الدول العربية وولادة الشرق الأوسط الجديد ليس جغرافياً وإنما ديمغرافياً فأصبحت الحالة الشعبية المتوحدة ضد ظلم واستبداد أنظمتها إلى طوائف تتقاتل فيما بينها سعياً إلى استلام السلطة بالقوة وقتلاً للآخر فاستبيحت الدماء وزُهقت الارواح فداءً لهذه الإنقسامات وللمصالح الضيقة وقد عززت الأنظمة العربية من ذلك والتي ارتعبت من هذا الربيع العربي وخوفاً على عروشها ومن خلال الإعلام الموجه وأطراف عملت ليل نهار لتعزيز الإنقسام وممارسة التشويه وتكوين مجتمعات الكراهية القاتلة للآخر فدخلت سورية في دوامة العنف الذي نشاهد فدفعت معظم ثمن قتل الربيع العربي على أيدي دول الجوار والدول الخليجية، وقد طاب لأمريكا وغيرها من الدول المؤثرة هذه الحالة التي وصل إليها الربيع العربي وهذا الإنقسام والتشظي للمجتمعات العربية وهي تنظُر من خلف الحجاب وقد عملت جاهدة في ديمومة الصراع من خلال الانظمة العربية العميلة لإستنزاف الدولة السورية وتعزيز الإنقسام والإقتتال والحفاظ على توازن القوى بين النظام السوري والثورة المسلحة وضمان إمتلاك القرار الفصل في مصير الربيع العربي السوري والقدرة على فرز النتائج التي تخدمها لتنتقل حمى الإنقسام إلى كل الدول العربية وخاصة التي لا زال يرقد فيها الربيع العربي وهذا ما أدى إلى فرملة عجلته في هذه الدول "الاردن مثال على ذلك".


 وعندما وصل الربيع العربي إلى حالة الجمود المؤقت في سورية وعجزه عن النهوض في دول أخرى, جاء الإنقلاب العسكري على نتائج ومكتسبات الربيع العربي المتمثلة بممارسة الديمقراطية التي أفرزت الإخوان المسلمين من خلال قرار وسيناريو مرسوم مسبقاً خارج مصر شاركت فيه دول عربية كانت توصف بأنها دول الإعتدال وفي الداخل المصري تواطأ خصوم الإسلاميين المهزومين عبر صناديق الإقتراع فلازمتهم عقدة الهزيمة لـِـ تلتقتي مصالحهم مع الأطراف الأخرى المتضررة من الربيع العربي وخاصة أبناء النظام السابق والمتغلغلة في مؤسسات الدولة العميقة ليتم استثمار خلافات أطراف الثورة وانقساماتهم وبالتالي السيطرة على الزخم الشعبي للثورة وإبطال مفعولها، وفي المقابل قد ظهرت الكثير من المؤشرات التي تدُّل على تواطؤ أمريكا مع هذا السيناريو وأبسطها تصريحاتهم المتباينة والضبابية وحالة الإرتباك على الإدارة الأمريكية وبالتالي اهتزاز صورتها كمدافع أول عن حقوق الإنسان وقيم الديمقراطية واحترام مخرجاتها فعملية الاحتكام الديمقراطي لا يكون بالحشد في الشوارع وإنما بالآليات التي تمارس في كل ديمقراطيات العالم وهي تعلم في المقابل أن هذا السيناريو سيخدمها ويخدم الكيان الصهيوني بدخول الفوضى إلى مصر كمخزون بشري عربي كبير قد يؤثر يوماً على أمن الكيان الصهيوني بالإضافة إلى استراتيجية موقعها وحجمها على المستوى العربي والأفريقي.


 إذن ولوج الشعب العربي في صراع عربي_عربي وهي رؤية أمريكية عربية بحكم العمالة والتبعية لمصالح كلا الطرفين فأنتجت حالة شعبية منقسمة على ذاتها ومتقاتلة فيما بينها بمسميات مختلفة والإسلاميون الذين فازوا بأول نتائج الربيع العربي هم يدفعون الآن ثمن الإنقلاب على مكتسبات الربيع العربي ولكنهم بهذا الدفاع المستميت عن الشرعية الشعبية التي حازوا عليها من خلال عملية ديمقراطية نزيهة هم يدافعون عن مبررات الربيع العربي ويعرون عمالة وتبعية الانظمة العربية، مما يترتب عليهم الإستمرارية في النضال السلمي ضد الإنقلابيين وعدم الإنزلاق إلى العنف والتعامي عن الإستفزازات مهما كان حجمها أو مصدرها، أما تفويض محاربة الإرهاب المزعوم في حقيقته هو محاربة الديمقراطية وحرية الشعوب، إنقلاب يدّعي بأنه اكتسب الشرعية من إعتصام أو مظاهرة والتي وفرّ لها الحماية والدعم بكل أنواعه ليقوم بفضّ إعتصامات الدفاع عن الشرعية بالقوة.


 قاطرة الربيع العربي مستمرة ولن تتوقف كما يتوهمون بل أن ما يحدث هو مخاض كان بالإمكان تجنب الحد الادنى منه ولكن سيفضي في النهاية إلى شعوب متحررة من استبداد وعمالة أنظمتها فقد عرفت الشعوب طريقها، ويكفي بعض القوى المدّعية التحرر والتي طالما تغنت بالنموذج الفنزويلي حيث ألجم الرئيس الفنزويلي أصواتهم اللاإنسانية بأن قام بسحب سفير فنزويلا من القاهرة حتى إشعار آخر مطالباً بعودة الرئيس مرسي إلى منصبه، وأتذكر في لقاء مع السفير الفنزويلي عند أحد الأصدقاء حيث تم توجيه سؤال له إذا خسر حزبكم الانتخابات فما هي ردة فعلكم وهل ستفعلون كما تفعل المعارضة الآن؟ فكانت الإجابة بأننا سنحترم نتائج الديمقراطية ونتحول إلى معارضة ضمن القانون ونسعى بعمل دؤوب على تطوير برنامجنا الذي نقدمه إلى الشعب للفوز بثقتهم من جديد.
إن أي قوة سياسية تسعى إلى استلام السلطة وإدارة الدولة لا بُد أن تكون شفافة مع الشعب وتحتمل الإنتقاد وتسعى إلى المشاركة مع بقية الاطراف، فالإسلاميون لا يمكن تجاوزهم أو إقصاؤهم من أي عملية سياسية في عالمنا العربي ولذلك فإن القوى السياسية التقليدية ومنها الإسلاميين مُلزمة بإجراء مراجعة شاملة وجريئة من تطوير خطابها ليتناسب مع الثقافة المجتمعية الإنسانية السائدة وتغيير آليات عملها والإبتعاد عن التأزيم لأجل إمتلاك ثقة الشارع.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد