الضجيج .. هادم اللذات

mainThumb

24-05-2014 10:12 AM

ذات يوم أحضر ولدي البكر لوحة بيضاء للرسم زودته بها إدارة المدرسة للمشاركة بمسابقة رسم بعنوان "الكويت جميلة وخضراء" تحت رعاية شركة شيفرون العربية السعودية! واتفقنا أن نُجسّد الضجيج كأحد أنواع التلوث البيئي المعاصرة. ولكني لم أستطع أن أساعده في نقل أفكارنا وأن أحولها رسما على اللوحة، ربما بسبب ضعف الإحساس الفني لدي والذي يحتاج لخيال جامح وقدرات فنية لا يملكها إلا الموهوبون.


وعند المقارنة مع سالف الأيام، فإن مستوى الضجيج قد تصاعد بشكل لم يسبق له مثيل حولنا؛ في البيت وفي الشارع وفي مكان العمل وعلى شاطئ البحر وتحت الأرض في الأنفاق وفي السماء، ولو صادف أن سألتَ مُعمّرا طاعنا في السن عن الضجيج في أيام صباه لأجاب بدون تردد أنه ما كان بالمستوى الذي وصل إليه هذه الأيام.


إن الأصوات المزعجة في كل مكان، وإذا خفتت الأصوات من حولك فإني على يقين بأنك ستلتفت يُمنة ويُسرة متسائلا ماذا يحدث؟ وقد تُبادر بالإتصال على الأصدقاء لسؤالهم عمّا تظن بأنه كارثة مقبلة أو مصيبة قائمة. ولقد أُدرج الضجيج في قائمة مُلوّثات البيئة والتي تشمل فيما تشمل؛ الغازات المنبعثة من المصانع، والمخلفات النووية، والتدمير الممنهج للغابات الخضراء التي قاربت على الإنقراض. والمؤلم أن هنالك منطقة من مناطق الكويت تسمى "الضجيج"، ما أحببتها قط، وأتجنب الذهاب إليها أو حتى التسوق منها، فيكفي اسمها ليكون عاملا منفرا، وأقترح بحرارة على صُناّع القرار العمل سريعا على تغيير هذا الاسم... المزعج. وهذه الأيام ما أن تخرج للشارع أو السوق أو تذهب للبيت إلا وتجد نفسك محاصرا بين مختلف أنواع الضجيج الصوتي. فلا يتفاهم الناس بالشوارع إلا بالزوامير والصراخ، وفي السوق تجد الباعة يصرخون بصوت عال على الزبائن، وفي المسجد (بيت الله) فحدث ولا حرج؛ تزعجك مختلف أنواع الرنات والنغمات وأنت في لحظات وقوفك خاشعا بين يدي الله. وأما في البيت الذي يعمره الصغار الأحبة فأصوات عراكهم ولعبهم تطغى على صوت التلفاز في محاولة يائسة منك لسماع آخر الاخبار، لتبدأ أنت الآخر بالصراخ عليهم ليصمتوا وهكذا دواليك. وعندما ينقضي يومك وتأوي إلى فراشك متعبا مرهقا وطنين أذنيك لا يتوقف، وما أن تغرق في نومتك الجميلة حتى يُرعبك صوت صادر من الشارع من أحد الحمقى المستهترين يشفّط بسيارته بعد منتصف الليل فرحا بما يفعل وصوت مذياعه الصاخب ينقل أغنية محمد سالم "قلب قلب... وين وين"، لتعاود الكَرّة في محاولة النوم لتفيق على صلاة الفجر على صوت المؤذن الشجي مناديا للصلاة فيُغسل مع ذكر الله ما في القلوب من أدران وما في النفوس من أحقاد استعداد ليوم جديد.


ولقد كنت منذ أيام أتناول طعام العشاء مع أسرتي في أحد مطاعم الوجبات السريعة وتلقينا ما مقداره أطنان من الضوضاء والضجيج حتى بلغ الأمر أننا كنا نتحدث فيما بيننا بالصراخ ونحن نجلس على طاولة واحدة! ولكني حينما قارنت ذلك بما حدث معي في أحد مطاعم مدينة ميونيخ/ ألمانيا الشتاء الماضي لم أجد ذلك الفرق الكبير، فالضوضاء كانت في ذلك المطعم تضاهي مطاعمنا أو تزيد عنها ضجيجا وإزعاجا، ولربما كان الألمان مثلنا يحبون الحديث كثيرا وبصوتٍ عالٍ ولكنهم بالتأكيد ليسوا مثلنا في العمل والإنتاج والإبداع. ولشد ما أعجبني ما قرأته منذ أيام في الإنترنت عندما حلل أحد الحكماء سبب الصوت العالي عند البعض قائلا: بأن القلوب تباعدت حتى ولو تقاربت الأجساد لذلك يضطر هذا البعض للصراخ لإحساسه ببعد الآخر عنه!


وبصفتي طبيب أسنان مخضرم، فأنا أيضا أحد أولئك المساكين الذين صُمّت آذانهم من مستوى الضجيج الذي كنا نعيش فيه ليل نهار في العقود الماضية. فعيادة طبيب الأسنان سابقا كانت تتمتع بكامل المواصفات التي تؤهلها لتكون في المراتب الأولى على مستوى المهن بالقدرة على إحداث الضجيج والجلبة. والحق يقال أني قد أمضيت فترة من الزمن (سنوات) أشاهد التلفزيون لساعات (بدون صوت تماما)، كل هذا بسبب جُرعة الضجيج التي كنت أتلقاها يوميا في العيادة إلى أن بدأت أُدرّب نفسي وأقنعها أن الضجيج مقطوعة موسيقية جميلة أو أنه أحد سيمفونيات باخ أو موزارت الرائعة، أو أغنية للسيدة فيروز مثل (سألتك حبيبي لوين رايحين). ولكن الحمد لله أن الجيل الحديث من معدات طب الأسنان يتميز بالكفاءة التقنية العالية ويصاحبها القليل جدا من الأصوات فأصبحنا نحن ومراجعي العيادات ننعم بالهدوء ونقدم لهم خدماتنا بشكل مريح مقارنة بما مضى. ولعلي لا أذيع سرا حينما أقول أن ضجيج الأولاد في بعض الأحيان متعة وسعادة بشرط ألا تزيد عن الحدود المعقولة. وفي ذلك قال الشاعر بهاء الدين الأميري أجمل قصيدة قالها شاعر في فراق الأولاد وغياب ضجيجهم حين قال:


أين الضجيج العذب والشغب  أين التدارس شابه اللعب


أين الطفولة في توقدها أين     الدمى في الأرض والكتب


أين التشاكس دونما غرض     أين التشـــــاكي ماله سـبب


أين التباكي والتضاحك في    وقت معا والحــزن والطرب


لقد تلوثت حياتنا بالضوضاء، وضاع مع هذا الصخب هدوء الحياة وسكينتها، وفقدنا لذة الاستمتاع باشراقة صباح كل يوم مع هدير السيارات ودبيبها، لنبدأ يومنا مُعكّرا ونباشر أعمالنا بعصبية وانفعال، نعم قد يزداد انتاجنا ولكن بالمقابل يقل الحب في العطاء ويغيب الإبداع. ولذا فإني أقترح أن نختار يوما نسميه "يوم الهدوء"، تتوقف فيه كل وسائل النقل الحديثة باستثناء الدراجات الهوائية لنستعيد ما فقدناه ونتذوق طعم الهدوء ولو لمرة في حياتنا... يا ريت.
 



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد