راغب الزيادي .. ضحية السقوط المجتمعي والتعليمي

mainThumb

31-10-2014 03:31 PM

ما زلت مدرسا للطلاب ومنذ أكثر من ربع قرن من الزمان ، وعاصرت أجيالا متعاقبة وتعاملت مع أولياء امور كثيرون ، وعاشرت معلمين وادارات مختلفة ، ورأيت الجادين منهم والمستهترين وعاشرت المخلصين منهم والباحثين عن الراتب فقط .

     في الماضي البعيد ؛ قام ولي الامر بتوكيل أمر تربية وتعليم ابناءه لمعلم المدرسة ولادارتها ، وبقي ولي الأمر قائما بدوره للمعلم في حمل رسالته الثقيلة والصعبة ، وتوالت الأيام وتحكمت النساء العاطفيات في شئون البيوت وفي مصير الاسر ،  فتبدل الحال واجبر ولي الامر على الاذعان لطلب زوجته والمبادرة فورا لتقديم شكوى بحق المعلم المعنف لإبنهم المدلل أو حتى الاعتداء عليه وشتمه وضربه اذا لزم الأمر .

ومرت الأيام فإذا بالنساء  يقفزن من فوق رقاب الأزواج ويقمن بأنفسهن بتهديد المعلمين وبتقديم الشكاوي الكيدية وغير الكيدية بحقهم ، ولم  يتوقف  التفكك الاسري والمجتمعي عند هذا الحد من التردي ، وبقي الحال التعليمي والتربوي يتدحرج ويتهاوى الى الأسفل حتى تجرأ الطالب المنفلت والخالي من كل القيم والاخلاق بالقفز بنفسه عن والديه وعن كل أقاربه وعشيرته ومجتمعه ودولته وكل شي ثم يقوم باحضار مجموعة من كلاب الطرقات وزعران الحارات للاعتداء على مدرس خلوق ومجتهد وإداري مخلص وجاد وشتمه وضربه  .

      ووصل الإنحطاط التعليمي والتربوي الى حد استخدام هؤلاء للسلاح الحي وقتل مدير مدرسة الجيزة الثانوية الأستاذ والمربي الفاضل : راغب الزيادي والذي استشهد وهو يحاول احقاق الحق وتطبيق القوانين والانظمة التربوية بعدالة متناهية ودون أية محاباة .

        تبدلت نوعية الاسر وتبدلت خامة الطلاب وتبدلت نظرات المجتمع لمهنة التعليم من كل النواحي والزوايا ؛ فالمعلم الجيد والادارة الجيدة في زماننا هي : التي تستطيع ان تمرر السنة الدراسية بأقل قدر من المشاكل والفضائح والصخب والضجة ، ولو كان ذلك بالسكوت على التجاوزات والتردي التعليمي والسقوط التربوي ؛ ولا يهم ماذا تعلم الطالب في مدرسته وماذا اقتبس من سلوكيات ومن اخلاق وقيم ، ولكن المهم عند كل الحلقات المراقبة والمساندة للتعليم وللمعلم وللتريية اامدرسية تتمثل وكما قلت : في قدرة المعلم وقدرة الإدارة على تمرير العام الدراسي بلا فضائح ودون إشكالات وصجة وصخب .


وأنا واثق بأن الكثيرين في هذا المجتمع الأردني وبعضهم من المسئولين التربويين ومن الادارات ومن المعلمين سيبادرون لوضع اللوم كله على كل المعلم او على المدير الجاد والمخلص إذا حدث واصطدم مباشرة مع ولي امر سيء الصيت والاخلاق ، وإذا استخدم العقوبة بحق طالب وقح وأزعر ثم اعتدى عليه بقولهم له دائما : لماذا تدخلت يا هذا ؟ ولماذا طبقت القانون يا مسكين ؟ ولماذا اصطدمت مع الازعر فلان ابن الأزعر فلان إبن ... ؟ ولماذا واجهت ... ؟  ولماذا ولماذا ... ؟ هداك الله يا أخي ؛ فلو تريثت قليلا وتركت المركب يسير مثل غيرك ! ولو اغضمت العيون لكان أفضل لك ولنا وللمدرسة  ! أيعجبك هذا الذي حدث لك ؟

    لا نستطيع ان نوجه اللوم على الطالب وأهله فقط  في هذا الانحدار التعليمي الاردني ، ولكن كثيرا من الادارات والمعلمين ومن المسؤولين التربوين عليهم لوم كبير فيما نحن فيه وفي كل ما نعانيه اليوم من مشكلات تعليمية وتربوية  ، فعندما يقول المعلمون والاداريون وكل من يوجهون العملية التعليمية : دع المركب يسير ولا تحاول التدخل في تعديل وجهته ، فسينقلب المركب في لحظة معينة وسيغرق الجميع .
      لن تعود للادارات المدرسية هيبتها السابقة ، ولن يعود للمعلم  الأردني هيبته والكل يرى الاعوجاح والسقوط والانحطاط ولا يبالي ؛ فإشاحة الوجوه عن النيران لن تطفئها أبدا واغماض العيون عن عن المصيبة لن تلغيها ولن تحلها .

كانت للادارات القديمة وللمعلم القديم هيبته عندما تدخلت المدرسة والمعلم في كل صغيرة وكبيرة فيما يخص الطالب : لباسه ونظافته والفاظه وسلوكياته في داخل المدرسة وفي خارجها ولكن هيبة الادارات وهيبة المعلمين والتعليم تقلصت وتلاشت عندما شاهد كل هؤلاء  الطلاب وهم يترنحون في مشيتهم ترنح الغانيات المائلات ولم يتدخلوا ، وعندما لبس الطلاب الساحل والسلسال والاسوارة واستخدموا الوشم وشتموا زملاءهم باقبح الالفاظ ولم يتدخلوا ، وعندما هرب الطالب من مدرسته وجاء اليها متى شاء ولم يتدخلوا .... فعندما اعتمدوا على مقولة المصريين المدمرة للمجتمعات ولكل شيء : ( وانا مالي يا خويه )  دمر كل شيء وتهاوى كل شيء .

    أيها الأخوة المعلمون : إن الهيبة يصنعها الشخص وهي لا تباع ولا تشترى ، وتذكروا بأن امريكا هي التي صنعت هيبتها وصنعت سطوتها في هذا العالم عندما تدخلت في كل صغيرة وكبيرة فيه : حقوق الحيوان وحقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان والديمقراطبة .... إلخ.

وتذكروا بأن المعلم الاردني القديم تمكن من فرض هيبته وهيبة التعليم الأردني وهيبة المدرسة عندما تدخل في كل شئون الطلاب داخل أسوار المدرسة وخارجها ، ولكنه فقد هذه الهيبة وتلك المكانة عندما تقوقع واكتفى بدوره السلبي وبالمراقبة من بعيد واغمض عيناه وصم اذناه عن كل ما يدور وبجري في مدرسته وصفه من تجاوزات وانحرافات كبيرة وصغيرة من قبل الطلاب ، فانقلبت الأدوار فجاء الهجوم المضاد على المعلم من قبل زعران المجتمعات وسقط الحارات  ...

      رحم الله المدير الفاضل والجاد والمخلص وصبر الله أهله وأسكنه فسيح جناته .

وفي النهاية فانني أود قرآءة الفاتحة مرتين ; الأولى : على روح مديرنا المغدور ، والثانية : على روح التعليم الاردني المتراجع والمتهاوي .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد