الخبز المقدس

mainThumb

08-05-2016 11:38 AM

كانت امي الشمرية آبنة قبيلة شمر  عمره العقله العطيه قوقزه  رحمها الله تعالى امرأة ريفية بسيطة مثلها مثل امهات اغلب ابناء هذا الوطن العزيز .. كانت رحمها الله تستيقظ قبل آذان الفجر لتملأ جرار الشرب من سيل الزرقاء الذي كنا نقطن على ضفافه قبل تلويثه   وكانت تبرر ذلك انها تريد ان تحضر الماء العذب منه قبل ان يستيقض الفلاحين  الذين كانوا يرتادون المزارع للعمل وقبل ان يعبروا باقدامهم منه .. بعد  ذلك كانت تقوم بعجن طحين القمح وتتركه ليختمر ثم تشعل طابون الطين وتخبز لنا خبز  الكماج الذي كان يضرب به المثل كل من تذوق ذاك الخبز  .. 
 
وكم كنا بطفولتنا البريئة نتمنى ان نأكل خبز السوق الابيض وكنا نتربص قدوم بعض العمال ممن يحملون معهم بعض الخبز لنقوم بتبديل رغيف من خبز امي برغيف من خبز السوق وكان هؤلاء العمال يبتهجون بذلك اما نحن فكنا نتعارك على رغيف السوق ويتطاير منا الرغيف هنا وهناك واحيانا كنا نغمسه بخبز طابون امي .. 
 
امي التي كدت وتعبت وزرعت ورعت الماشية وذبحت الذبائح ورحبت بالضيوف وربت وتعبت ورمت على البندقية لم تكن من سيدات المجتمع المحلي ولم تكن تعرف الصالونات السياسيه ولا الفساتين والسهرات ولا السفر خارج حدود البيت كانت رحمها الله تعالى لها دار ازياء واحده فقط هي المدرقة الاردنية الاصيلة  ملقية خلف الزمن تلك التشوهات التي طرأت على المجتمع الاردني المحافظ الذي اصبح بلا لون ولا طعم ولا حب .. كانت رحمها الله دائما وابدا تطلب منا ان نحافظ على الخبز وان لا نلقي مايزيد عن حاجتنا على الارض كانت تطلب منا ان نقبل الخبز دائما وابدا وان نضعه فوق رؤوسنا كانت تقول : يمه حافظوا على النعمه لانه ربنا بزيلها لما نجحدها ...  وكنا نحن كعادة ابناء الحراثين ننفذ ذلك بقدسية تامه رغم انني كنت اتسائل بيني وبين نفسي عن سر قدسية امي للخبز رغم انه نبات مثله مثل الخس والجزر والشعير والبندوره .. وكنت اتردد عن سؤالها عن سبب ذلك لخوفي من الخوض في كل ماهو مقدس .. وكنت اقول بيني وبين نفسي ان امي تعرف اكثر مني ..
 
وبعد سنوات طويله كبرت فيها وطوت فيها الارض جسد امي الطاهر وإختفت من حياتنا المنكوبة بفراق الام تلك اللحظات التي كنت اقضي فيها سويعات خالدة على قدمي امي حيث كنت اضع خلسة بعض الرمل برأسي واتحجج عندها بوجوده لتقوم هي بتفليتي وإخراجه حيث كنت استمد من قدميها الطاهرتين مالم يوفره لي العالم اجمع الذي هججت اليه باحثا عن ام .. 
 
بعد سنوات خريفية متعاقبة وحينما كنت ارى فيها كيف ان الاستعمار اول مايحارب فيه اصحاب الارض هو السيطرة على مصادر رزقهم وغذائهم وبذلك فهو يستعبدهم الى مالانهايه .. نظرت كيف ان الفقير يطرق ابواب الاغنياء ويكسر نفسه وخاطره طلبا لرغيف الخبز وفهمت ان الكرامة لاتتحقق الا من خلال اكتفاء البشر ذاتيا وعدم حاجتهم لمد اليد للآخر لاطعام الافواه الجائعه ففهمت ان تبعية تلك الافواه تكون لمن يطعمها وان السيادة والقرار المستقل لاتتحققان إلا حينما نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع .. فالرابط بين الكرامة والخبز كبير وحينما يغيب واحد يتبعه الآخر .. 
 
وبعد تلك السنوات الطويلة الزاخرة بالصور العميقة رجعت بذاكرتي لذاك الزمن الجميل وتذكرت كلمات امي عن قداسة الخبز .. لقد كانت امي رغم انها امية لا تكتب ولا تقرأ تفهم هذه المعادلة عن ظهر قلب وكانت تحاول ان نعي نحن مكانة كسرة الخبز ليس كونها غذاء نحتاجه مثله مثل كافة انواع الخضراوات والحبوب والفواكه بل الحقيقة كانت ابعد من ذلك .. فالخبز كان يمثل لامي الكرامة وليس الغذاء كما كنا نعتقد .. 
رحمك الله يا امي كم كنتي وطن ..


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد