أين يتجه العالم بعد جائحة الكورونا ؟

mainThumb

11-04-2020 05:25 AM

يتحدث الكثيرون هذه الأيام عن المستقبل السياسي والاقتصادي ما بعد كورونا ، ما حجم الإهوال التي تنتظرنا . فهناك من يتحدث عن حرب عالمية ثالثة ، صراع وحرب ضروس بين الولايات المتحدة والصين ، وربما روسيا. كما يتنبأ البعض بقرب الإعلان عن نهاية الاتحاد الأوروبي، ويزعم البعض الآخر إلى أن العالم يسير بلا قيادة ، أي بمعنى آخر فقد فقدت الولايات المتحدة القدرة على قيادة العالم الرأسمالي. فعلى حد تعبير جوردون براون رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ،الذي يقول بالتحديد "إننا نواجه خطر الانزلاق نحو أزمة مستقبلية ... يجب ان ننتبه انتباهاً شديداً للمخاطر المتصاعدة ، فنحن نعيش في عالم بلا قيادة ... إن التعاون الذي شهدناه عام 2008 لن يكون ممكناً الآن ، لان البنوك المركزية والحكومات معاً ، ان كل ما ستفعله هو إلقاء اللوم على بعضها بعضاً بدلاً من إيجاد حل للمشكلة".

دعونا نتناول المسألة بشكل أكثر دقة ، حتماً سيكون هناك أزمة اقتصادية وسياسية عالمية سوف تمتد لفترة طويلة من الزمن حتى تستطيع أن تتعافى منها دول العالم. هذه الأزمة هي أزمة تراكمية في بنية النظام الرأسمالي العالمي ، ولم تتفاقم الان بسبب السياسات الاقتصادية غير المتسقة مع السياق العام للسياسة الدولية فقط ، بل ربما بقدر السياسات الخاطئة التي مهدت الطريق نحو الأزمة التي نعايشها الآن والتي طالت كافة دول العالم بلا استثناء ، ووباء الكورونا ليس سبباً مباشراً لتلك الأزمة ، فأزمة النظام الرأسمالي العالمي سابقة لأزمة الكورونا ، ولكن انتشار هذا الوباء والذي هو بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير فجاء ليسرّع تفاقم الصراع الرأسمالي العالمي بين الولايات المتحدة وحلفائها والصين وروسيا وبعض الدول الأخرى على قيادة العالم.

قبل أن نناقش الأزمة سياسياً لا بد أن نتطرق إلى العلاقة الجدلية التي تربط السياسة في الاقتصاد ، فبإختصار إن أي أزمة هي فترة ركود وتراجع ، لان التطور في أي مجتمع يجري عبر فترات من التوسع والركود . فسيادة الرأسمالية قد دشنت سيطرة المستوى الاقتصادي على المستوى السياسي فأصبحت الثروة هي مصدر القوة والسلطة السياسية ، على عكس الأنظمة التي سبقت الرأسمالية ، فأزمات الرأسمالية هي أزمات ذات طابع اقتصادي بالدرجة الرئيسية بحيث تتجلى بانخفاض معدلات النمو وتفشي البطالة وغيرها. إن تاريخ الرأسمالية هو تاريخ متواصل من الأزمات الاقتصادية القصيرة والطويلة والمتوسطة من فترات انكماش وتمدد ، بحيث نجحت الرأسمالية في تجاوز أزماتها العامة نتيجة للمرونة الكبيرة التي يمتلكها نظامها السياسي. فالسياسة تتبع الاقتصاد ولهذا فقد اعتمدت الرأسمالية في ظل القطبية الواحدة بعد انهيارالاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية على العولمة ، حيث أن الدول ذات السيادة في المركز الرأسمالي ومع تطور مراحل الراسمالية أصبحت اكثر جشعاً من ذي قبل ، ولهذا فتوجهت لاستغلال فائض إنتاجها في التوسع للخارج والاعتماد على مبدأ التبادل اللا متكافئ بحيث تحل السلع المستوردة محل المنتجات المحلية في دول المركز وبالتالي فهي تؤمن استثمارات الإنتاج في دول العالم الثالث الذي يعتمد على نسبة الأجور المدفوعة المنخفضة بالمقارنة مع الدول في المركز مما يؤمن ربحية أعلى للنظام الرأسمالي وتضمن استغلال الموارد في دول المحيط وتبعيتها الاقتصادية والسياسية.

إن واقع الصراع السياسي للرأسمالية الحالية والمتمثلة في الثالث الرأسمالي (الولايات المتحدة ، الاتحاد الأوروبي بما فيهم المملكة المتحدة ، واليابان) في استقطاب دول العالم في المحيط الرأسمالي كان قد ابتدأ في التغير مع الواقع الجديد الذي فرض نفسه بنفسه مع نمو بعض الدول في تخوم النظام الرأسمالي. فجاء نموالاقتصاد الصيني وتطوره المستمر عبر العقود الماضية أمر لا لبس فيه ، بحيث أصبحت الصين دولة ذات اقتصاد صاعد وقوي ، بحيث اصبحت تنافس العالم الأول على زيادة حصتها في التجارة الدولية بعد أن أغرقت المنتوجات الصينية المختلفة الأسواق في كافة دول العالم. هذا الصعود الكبير للاقتصاد الصيني يشكل تحدياً رئيسياً للولايات المتحدة وحلفائها، كما أن تعافي روسيا الاتحادية في فترة وجيزة من الزمن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وامتدادها الآسيوي وعلاقاتها المميزة مع الصين يشكل عامل ضغط آخر على قدرة الولايات المتحدة من البقاء في مركز القيادة ، ناهيك عن الصراع الرأسمالي – الرأسمالي للدول المتحالفة بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي أو حتى دول الاتحاد الأوروبي فيما بينها ، فبالأمس قد انسحبت المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي ، هذا وقد فقدت الدول الأوروبية ثقتها في الولايات المتحدة في قيادة العالم في القضايا المتعلقة في السياسات الدولية المالية والتجارية والدبلوسية والعسكرية وغيرها.

ولذلك بدأت أوروبا تتخلى رويداً رويداً عن هذا التحالف الذي استمر ما بعد الحرب العالمية الثانية منذ خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا إلى أيامنا هذه. بالفعل لقد بدأت دول الاتحاد الأوروبي الاعتماد على منظومة من العلاقات الثنائية مع بعضها بعضاً ومع دول أخرى خارج حدود الاتحاد الأوروبي ، فقد أبرمت إيطاليا مع الصين اتفاقيات شراكة في العديد من القطاعات وبهذا فقد خرجت عن تحالفاتها التقليدية ضمن المنظومة الرأسمالية العالمية في التحالف الرئيسي بين الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبريطانيا. إن مجمل الصراع يتمحور حول من سيقود العالم ، وبما أن العالم يتجه نحو التعددية القطبية لذا فهل من المعقول ان تبقى الولايات المتحدة هي من تتحكم في دفة القيادة ، اشك بذلك ، ولكن هناك بعض المعطيات التي يجب التنبه اليها جيداً وهي أن أدوات الرأسمالية هي ذاتها وحلبة الصراع تضم كافة دول العالم ، وبالتالي من سيقود العالم سياسياً يجب ان يسيطر على الاحتكارات الخمسة الرئيسية في العالم وهي (التكنولوجيا ، النظم المالية ، الموارد ، الإعلام ، وأسلحة الدمار الشاملة).

فيما يخص التكنولوجيا ، وبينما تقود الشركات الامريكية التكنولوجية مثل غوغل وياهو وجروب اون وأمازون وايباي التي نجحت في الانتشار عالمياً من حيث منتجاتها ومنصاتها ، إلا أنها فشلت في الصين نتيجة لعوامل كثيرة منها التنافسية الخاصة بينها وبين الشركات التكنولوجية الصينية مثل بايدن وسوهو وتاوباو وجي دي دوت كوم وغيرها التي تسيطر على السوق الصيني.

في حين بدأت بعض منتوجاتها التكنولوجية تنافس مثيلاتها الامريكية كالهاتف الذكي هواوي الذي ينافس الايفون مثلاً والذي يتم تصنيعه في الصين ، بالإضافة إلى الكثير من المنتوجات التكنولوجية الامريكية الآخرى. إن الدول الصناعية الكبرى تفرض نماذجها في الصناعات التكنولوجيا والإلكترونية على كافة دول العالم بصفتها شركات احتكارية وعابرة للقارات وبالأخص على الدول المستهلكة للتكنولوجيا ، أما الدول المصنعة لذات التكنولوجيا فهي منافسة لها بطبيعة الحال وتتبع قانون العرض والطلب في زيادة أو تفليص حجم الإنتاج للمنتج وسعر وجودة المنتج. كما أنه للعلم فإن الصين تتقدم على الولايات المتحدة في الذكاء الصناعي) AI (Artificial Intelligence والتقنيات المتعلقة به ، وأبرز مثال على ذلك استخدام الصين للروبوتات في مواجهة أزمة الكورونا لتقديم العلاج والطعام والشراب في المستشفيات للتخفيف من الاحتكاك المباشر بين القطاع الطبي المعالج من أطباء وممرضين مع المرضى ،وذلك للحد من انتشار الوباء. بينما لم نشهد مثيل ذلك في الولايات المتحدة في مواجهتها لوباء الكورونا. بدلاً من ذلك فقد فاجأنا هذا النظام بعدم استعداداته للطوارئ ، هناك نقص كبير في عدد الأسِرّة في المستشفيات والبالغة مائة وخمسون الف سرير في كافة أنحاء البلاد وهذا الرقم وإن استخدمت كافة الأسِرّة للعلاج فهو غير كافٍ بالمقارنة بعدد الحالات المتزايدة بمعدل لا يقل عن عشرون الف حالة يومياً ، كما ان هنالك نقص شديد في الأدوية والأجهزة الطبية وخاصة أجهزة التنفس.

نستنج مما سبق في ان الصين ومنتجاتها من التكنولوجيا وغيرها ستنافس المنتوجات الامريكية وحتى اليابانية والكورية الجنوبية وهي من الدول المتقدمة في انتاج السلع الإلكترونية والذكاء الصناعي وهي بذات الوقت دول منافسة تكنولوجياً لكافة المنتوجات الامريكية ، بل وتعتمد هذه الدول على الصين في التصنيع لمنتجاتها أسوة بالولايات المتحدة، وعلى الرغم من ان الوباء قد يجعل الشركات متعدية الجنسية بإعادة التفكير باعتمادها على الصين ، ولكن الصين كبيرة لدرجة انه وعلى الرغم من الحاجة إلى التنويع ، إلا انه لا يمكن لتلك الشركات إلا ان تعيد النظر وتتجه مجدداً للاعتماد على الصين بحثاً عن المكونات والسلع المتنوعة وقدرة الصين البشرية الهائلة. ولهذا فستكون الغلبة للصين ولن تكون للولايات المتحدة بشكل قطعي فيما يخص الاحتكار التكنولوجي وغيره.

أما فيما يخص النظم المالية ، فتتحكم واشنطن في النظام المالي العالمي الآن وذلك لإن لديها الاقتصاد الأعظم في العالم ، ولإن 61% من احتياطي العملات الأجنبية في العالم هي بالدولار. وهذا ما يعطي الولايات المتحدة القوة لان عملتها هي عملة التداول الدولي . لكن بالمقابل فإن حجم الاستثمارات الصينية في الأوراق المالية وخاصة في سوق الولايات المتحدة بلغت 2 ترليون دولار في وقتنا الحالي. ولكن هل سيبقى الدولار هو العملة الدولية في ظل الصراع الرأسمالي العالمي على القيادة ، أم ستسبدل بعض الدول الدولار بعملاتها المحلية بتبادلاتها التجارية ، فقد لوحت الصين وروسيا إلى ذلك في وقت قريب. هذا إن حصل فانه سيضع الولايات المتحدة امام مأزق كبير وقد يؤدي إلى انهيار في النظام المالي العالمي. فهذا يشكل تحدٍ آخر للولايات المتحدة وخاصة ان حلفائها الأوروبيون يستخدمون اليورو كعملة أساسية لكافة التبادلات التجارية فيما بينهم.

أما من الناحية السياسية وامام تلك التحديات فهل ستقف الولايات المتحدة بعد انتهاء أزمة الكورونا مكتوفة الأيدي امام التعددية القطبية التي فرضت وستفرض نفسها أكثرعلى الواقع السياسي العالمي الآن ، أمام النمو في الاقتصاد الصيني الصاعد الذي قد يتباطأ مرحلياً هوالآخر لإن القدرة الشرائية لدول المحيط ستكون أقل نتيجة للأزمة الاقتصادية الخانقة التي ستطال كافة دول العالم.

ولكنها فترة مرحلية ستكون قصيرة. في الواقع لن تستسلم الولايات المتحدة امام الواقع الجديد ، بل ستفعل المستحيل من أجل أن تبقى في سيادة العالم الرأسمالي لتتحكم سياساتها في إدارة الكون مع أنها بدأت تدرك بوضوح بانها لن تكون منفردة هذه المرة ، فالواقع الجديد يفرض نفسه ويفرض القوى الأخرى على الساحة الدولية لتنافس بندية على عدم السماح للولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيون في قيادة العالم الرأسمالي.

فهذه الرأسمالية الحالية أصبحت متهالكة بشدة ، في حين انها قد تنجح في العبور من هذه الأزمة بتدويرها كالعادة مع علمها علم اليقين أن هذه الأزمة كارثية بالمقارنة بمثيلاتها ، ولذلك فستلجأ إلى ممارسات أشد وحشية وشراسة من ذي قبل في سياساتها الداخلية والخارجية ، وستنقلب على حلفائها من الدول التابعة وستنقلب على العولمة ، وسياسات اقتصاد السوق و الليبرالية الجديدة وشعارات الديمقراطية الزائفة التي تسوقها في خطابها السياسي المعتاد.

فستعمل الإدارة الامريكية على استغلال أمبراطورية الإعلام الضخمة التي تسخرها لخدمة أهدافها وستعمل ألتها الإعلامية على التسويق للحروب عن طريق تأجيج الأزمات و زيادة بؤر التوتر في العالم لاختلاق الحروب وبيع السلاح وممارسة سياسة إرهاب القوة لتبسط سيطرتها وتشدد الخناق على كافة الدول التابعة وخلق توازنات جديدة تؤمن لها هامش من الحركة والمراوغة السياسة لكسب تأييد تلك الدول بالقوة للسيطرة على مقدرات وموارد تلك الدول ونهبها لصالح الرأسمالية الامريكية.

وبالمقابل فإن الدول الصاعدة الأخرى كالصين وروسيا لن يقفا مكتوفي الأيدي بل سيتصدى كل منهما للسياسات الامريكية وسيستقطب كل منهم العديد من الدول الأخرى التي ستقف بجانبهما في قطبية جديدة ستكون قادرة على كسر الاحتكارالأمريكي.

أراد ترامب تدمير الصين بالكورونا وتدمير روسيا وفنزويلا بانخفاض سعر البترول ، فانتصرت الصين على الكورونا وفاجأت ترامب والعالم بفعاليتها وجهوزيتها للحد من انتشار الوباء ، كما افاد انخفاض سعر النفط الصين كونها اكبر مستورد للنفط في العالم . في حين تهاوى النظام الأمريكي امام العالم وتبين أنه غير قادر على حماية شعبه بالشكل الذي يليق بالدولة ذات الاقتصاد الأعظم في العالم على عكس ما أوهمتنا فيه هوليوود عبر عقود من الزمن في قدرة أمريكا على حماية الكوكب ، وما هو سوى وهم تبيعه للعالم ، كما هي الرأسمالية والنظام الرأسمالي الذي لن يكون مستقبلًا البشرية حتى في ظل التعددية القطبية .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد