ماذا يعلّمنا مكبث

mainThumb

14-05-2023 09:20 AM

لئن اعتُبرت «هملت»، وهي أطول مسرحيّات وليم شكسبير، أهمّها أيضاً، فإنّ «مكبث»، وهي أقصرها، تُصنّف الثانية أهميّةً.

لقد أُسبغت عليها نعوت كثيرة، فهي أكبر قصّة حقد تُكتب في التاريخ، وسيرة للطموح وسفك الدم، كما أنّها تراجيديا رجل نبيل وشجاع يرتدّ نكوصاً إلى أسوأ ما في الطبيعة الإنسانيّة...

المسرحيّة، التي كُتبت في 1606، تبدأ بالجنرالين الاسكتلنديّين مكبث وبانكو، وقد هزما جيوش إيرلندا والنروج الغازية لكنّهما، في طريق عودتهما، التقيا ثلاث أخوات ساحرات أخبرن مكبث بأنّه سوف يصبح سيّد منطقة كاودور ومن ثمّ ملكاً على اسكتلندا، بينما أخبرن بانكو بأنّه لن يصبح ملكاً لكنّ أبناءه سيصبحون.

مكبث يسمّي الساحرات «متحدّثات ناقصات»، ويقول إنّ كلامهنّ لا يقبل التصديق، لكنّه لن يلبث أن يصبح فعلاً سيّد كاودور، فيكتب لزوجته لايدي مكبث، والتي تبدو دوماً كأنّها على شفير انهيار عصبيّ: سوف نصبح عائلة مَلكيّة، والشيء الوحيد المتبقّي هو أن نقتل الملك. ومن هذه المحطّة تنطلق الزوجة العُصابيّة فتقود زوجها في طريق الدم، متلاعبةً بمشاعره، وكاشفةً كم يضعف رجل قويّ كمكبث أمام مزيج من الحبّ والطموح.

لكنْ بعد نوبة الفرح التي أصيبت بها لايدي مكبث، بسبب ما قالته الساحرات، يحضر الملك دَنْكن للمبيت في قلعة مكبث الذي يخطّط مع زوجته لقتله ثمّ يقتلانه فعلاً. إلاّ أنّ النصف الثاني من الخطّة لا يلبث أن يتداعى على الطريقة الشكسبيريّة: هكذا يستبدّ القلق بمكبث بشأن أبنائه الذين لن يصيروا ملوكاً، كما بشأن ابن بانكو الذي سيصير. وإذ يقيم نظاماً استبداديّاً ينتقل معه من دم إلى دم، ومن جريمة إلى جريمة، تبقى مشاعر الذنب حاضرة وفاعلة بقوّة فيه.

لكنْ حين ينجح ابن بانكو في الهرب من القَتَلة الذين استأجرهم مكبث، والذين قتلوا أباه، تستولي الهلوسة على الأخير. هكذا نراه يقصد الساحرات اللواتي يخبرنه أنّ عليه الابتعاد عن السيّد ماكدوف، وبعد ذاك لن يستطيع «رجل ولدته امرأة» ان يؤذيه. فهو سيبقى بخير طالما بقيت غابة بِرنام المجاورة لقلعته في مكانها.

ولئن طمأنتْه حقيقة أنّ الأشجار ثابتة في أرضها لا ترحل، فقد اندفع أبعد فأبعد في طريق القسوة والعُظام، فقتلَ عائلة ماكدوف وحاول القضاء على مقاومة نامية ضدّه وضدّ حكمه. أمّا لايدي مكبث، فظلّ يؤرّقها، هي الأخرى، دورها في اغتيال ملك أغدق العطايا عليهم، فيما تعجز عن مسح نقطة دم عالقة على ثوبها. هكذا تهيم على وجهها ليلاً، في واحد من أكثر مشاهد المسرحيّة قوّة وشهرة، مستعيدةً صوراً وانطباعات مرعبة مصدرها تاريخها الشخصيّ. بعد ذاك، وكمثل من يقتله شعوره الحادّ بالذنب، تموت ميتة يُرجّح أن تكون انتحاراً. أمّا مكبث فيكتشف، متأمّلاً في مصير زوجته، عبث الحياة ولا جدوى الطموح، إذ الموت واقف للجميع بالمرصاد. على أنّ اكتشافه هذا يأتي متأخّراً، فيما يلوح موت الزوجة كأنّه إيذان بقرب نهاية الزوج.

فماكدوف، بالتفاهم مع مالكولم ابن الملك دنكن، لا يلبث أن يُحضر لقتال مكبث جيشاً يقصّ أفراده أشجار غابة بِرنام بقصد التخفّي والتمويه، ما يذكّر بكلام الساحرات عن الأشجار. وإذ يلتقي مكبث بماكدوف في ساحة المعركة، يقول الأوّل للثاني إنّ ما من رجل ولدته امرأة يستطيع أن يؤذيه. لكنّ ماكدوف، الذي وُلد في شهر سابع وماتت لتوّها المرأة التي ولدته، يتقدّم ليقطع رأس مكبث، ثمّ يحمل تاجه إلى مالكولم، ابن دنكن، بوصفه ملك اسكوتلندا الجديد.

و»مكبث» تراجيديا تاريخيّة تعتمد، مثل «الملك لير»، على مصادر فعليّة، وإن عرّضها شكسبير لكثير من التصرّف الذي فرضته سياسات زمنه، خصوصاً إرضاء راعيه الملك جيمس الأوّل، وربّما ضرورات السرد أيضاً: ذاك أنّ أفعالاً كالقتل والطغيان تبقى للعمل المسرحيّ أشدّ إثارة وأقلّ إضجاراً من الأفعال السويّة والصالحة.

لقد حمل مكبث الساحرات على محمل الجدّ فقاده سلوكه هذا إلى الكارثة، لكنْ هل كان مصيره ليتغيّر لو لم يلتق الساحرات؟. تلك ليست مشكلة مكبث وحده، إذ تطال سؤالاً حول المستقبل وما إذا كان مقرّراً سلفاً أم أنّ إرادتنا حرّة. والحال أنّ مشكلة المقدّر (predestination) إنّما شكّلت أحد السجالات الدينيّة المركزيّة في أوروبا حينذاك، بينما كانت إنكلترا الإليزابيثيّة في قلب هذا السجال تبعاً لعمق انقسامها الدينيّ الذي لم يبدّده اعتناقها البروتستانتيّة مع هنري الثامن. لكنّ شكسبير ذهب أبعد، طارحاً سؤال التمييز الصعب بين القدر والخيار: فمكبث ولايدي مكبث اختارا خيارات كثيرة لكنّهما أيضاً نفّذا كلّ نبوءات الساحرات التي تراءى أنّها تخدم الطموح الذاتيّ.

فحيال قتله الملك، تصادم في داخل مكبث التحريم الأخلاقيّ المتّصل بخطر العقاب الأرضيّ واللعنة الأبديّة، بسبب مبدأ «الحقّ الإلهيّ للملوك»، والفرصة التي يفضي اغتنامها إلى جعله ملكاً. ولئن لم يستطع أن يقاوم الطموح، فإنّ خنجراً لاح له سريعاً في الهواء هو «خنجر العقل»، رمزاً للخيار الجرميّ الذي يرغبه ويخشاه في آن. وهذه هي معضلته الأخلاقيّة. فالمسرحيّة تعلّمنا كيف نتعامل مع الطموح ومع الشرّ والذنب اللذين ينجمان عن المبالغة في الانجرار وراءه. كما تهبط إلى أعماق إنسانيّة لتخرج بما يشبه الدروس الأخلاقيّة والعمليّة سواء بسواء. فالسياسة قادرة على تخريب شخص نبيل كمكبث، والمرء لا بدّ من أن يتحمّل المسؤوليّة عن أفعاله، فيما الحذر واجب ممّن يثق بهم الفرد أو يحبّهم، أمّا الاعتماد على التفكير المستقلّ لصاحبه فينبغي دائماً أن يغلب انصياعه وراء ما يقال له. وبالطبع توقّف بعض النقّاد عند ذكوريّة المسرحيّة، تبعاً لقيم ذاك الزمن، وهي التي تجلّت في شخصيّة لايدي مكبث المعبّرة عن «طبيعة النساء».

والحقّ أنّه منذ قول الساحرات الثلاث في المشهد الأوّل: «الصالح سيّء والسيّء صالح»، كإشارة الى ما سوف يحصل في باقي المسرحيّة، يتبدّى كم أنّنا أمام عمل يضجّ بالتناقضات وازدواج المعاني، وكم أنّ قراءة مكبث تمرين على هذه الحركة الإنسانيّة الدائمة من الانجذاب والنفور ومن الحسم والتردّد، ودائماً من الشكّ واليقين...


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد