وكان أبوه

mainThumb

24-05-2023 12:46 PM

في قطار ينطلق بسرعة عالية نحو الأمام، وفيه مسافرين ينزل بعضهم عند كل محطة، ويصعد آخرون، بطل قصتنا شاب مسكين، يرتدي تلك الملابس الرثة، والحذاء المقطع، ويعلو محياه كل عبارات وإشارات البؤس والعوز والحاجة، وترتسم في حركاته تعب السنين وثقل الليالي، يأكل ويشرب بخدمات يقدمها للمسافرين، من تنظيف مقطوراتهم، وكراسيهم، ومقاعدهم، وحمل متاعهم، وتلبية حاجاتهم.

البعض يشفق عليه، ويتصدق بمبلغ زهيد، أو بقايا طعام وشراب، أو كلمة طيبة، أو ابتسامة، وآخرون يستغلونه أبشع استغلال، وآخرون ينهرونه بل ويضربونه، ليزداد فوق بؤس الحرمان بؤسا من التنمر وسوء المعاملة.

وهو يتساءل في نفسه: لماذا أنا؟ لما أعاني كل هذا الشقاء والألم، أما آن لي أن أستريح من هذا القطار، وتراوده نفسه بأن يرمي بها من القطار منتحرا.

وفي قطار آخر يسير في الاتجاه المعاكس، هناك رجل يرتدي أجمل الملابس، ويأكل أطيب الطعام، وحوله حرسا مدججين بالسلاح، يسيطر على القطار، الذي يحمل عددا من المسافرين، قليل منعمين لقربهم من صاحب القطار هذا، وكثير يعانون الجوع والحاجة والعوز والمرض وشقاء الحياة، وصاحبنا المنعم لا يأبه بصرخات المطالبين بحقوقهم، وآهات المتألمين، بل على العكس يقمعهم ويزدريهم، ويصعر خده لهم.

وفي لحظة فارقة من الزمان، وبطلنا الشاب البائس يقف على طرف مقطورة من قطاره، وقد عزم على إلقاء نفسه تحت عجلات القطار، بعد أن سوّل له الشيطان حُسن صنيعه، مر القطار الآخر بجانبه، فالتقيا... فأخذ الشاب ينظر إلى القطار المنطلق في الزمن التليد، يمر أمام ناظريه، منبهرا بحسنه وبهائه، ومن على شرفة مطلة من ذلك القطار، وإذ بذلك الرجل المسيطر على القطار يقف غير مكترث بالقطار الآخر، ولا بالشاب على وشك الانتحار.

وفجأة وإذ بالشاب ينتبه إلى ذلك الشبه الكبير بينه وبين ذلك الرجل، بل كأنه هو، الفارق الوحيد بينهما نعيم وشقاء، وفي لحظة مرت كأنها الدهر، ببطئ شديد، الشاب ينظر في مرآة الماضي يرى خياله فيها، فصاح في الرجل: أنت... نعم أنت سبب شقائي هذا!

نظر الرجل وكأنه ينظر إلى خياله في مرآة المستقبل، وأجاب الشاب: أغرب عن وجهي... أنا لا أعرفك! فقفز الشاب من قطاره ورمى بنفسه تحت عجلات القطار الآخر، فسحنت جسده الضعيف ومزقته إربا إربا، فانقبض قلب الرجل وهو ينظر إلى ما حدث، ويكأن جزء منه قد تحطم، ثم ارتدى نظارته السوداء، وعاد إلى قطاره وكأن شيئا لم يحدث، لأن الأنانية أن تعيش اللحظة، ولا تدرك أجزاء منك ترسم ملامح مستقبلها بحجر الفحم الذي ترمي به الآخرين.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد