القصور الرئاسية التركية .. جولة بين غرف وممرات التاريخ والحاضر

mainThumb

27-05-2023 11:55 PM

السوسنة - بتأسيسه الجمهورية عام 1923، طوى مصطفى كمال أتاتورك حقبة الإمبراطورية العثمانية وعاصمتها إسطنبول، الممتدة لنحو 600 سنة، ليحوّل، بقرار الجمعية الوطنية الكبرى، بعد طلب من وزير الخارجية وقتذاك عصمت إينونو و14 نائباً، العاصمة إلى أنقرة، بعد أن استقبلت هذه المدينة الصغيرة أعضاء البرلمان العثماني والجنرال أتاتورك، ليخططوا لحرب الاستقلال، بعد احتلال الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) العاصمة إسطنبول، لتشهد أنقرة انعقاد البرلمان، وتنتقل العاصمة إلى وسط الأناضول، وتصبح منذ ذاك عاصمة الجمهورية التركية.

ولكن، ليس في أنقرة قصر رئاسي أو حتى سلطاني قديم، كما في أدرنة أو إسطنبول، يقيم فيه الرئيس أتاتورك، وربما ليس في الوقت متسع لبناء قصر يحاكي قصور السلاطين أو يليق بمن يراه الأتراك، حتى اليوم، مؤسس الجمهورية ومانح تركيا استقلالها ومخلصها من مكائد الحلفاء، بعد انتصاره عليهم في ولايات سكاريا وإينونو ودوملوبينار، وصولاً إلى 30 أغسطس /آب 1922، حين انتهت "حرب الاستقلال" التي وضعت الحجر الأساس للجمهورية.

رأى مفتي المدينة أن يجمع تبرعات من المواطنين لشراء قصر للرئيس، فكان قصر تشانكايا نسبة للمنطقة الموجود فيها والذي بناه، بحسب المراجع التركية، تاجر أرمني وسط أنقرة على مساحة 1770 متراً مربعاً، ثم اشترته أسرة تركية غنية قبل أن يشتريه المفتي من تبرعات الشعب ويهديه لأتاتورك عام 1923، ليقيم الرؤساء في قصر "تشانكايا" منذ أتاتورك وبعده عصمت إينونو حتى أحمد نجدت سيزر، قبل وصول العدالة والتنمية للرئاسة، بل وبعد وصولها، إذ أقام الرئيس عبد الله غل في القصر حتى وصول رجب طيب أردوغان لسدة الرئاسة عام 2014 الذي خالف نظراءه السابقين، وكسر البروتوكول المعتمد منذ تأسيس الجمهورية، لينتقل إلى قصر "المجمع الرئاسي" الذي أمر ببنائه منذ عام 2011 وقت كان رئيساً للوزراء، ما أثار زوبعة من انتقادات المعارضة وقتذاك، نظراً لاعتبارهم قصر تشانكايا رمزاً للدولة وأتاتورك وحصن العلمانية. والأمر الآخر لما قيل عن تكاليف المجمع الرئاسي وقتذاك، والتي قدرها وزير التنمية التركي جودت يلماز عام 2014 بنحو 1.370 مليار ليرة، أي نحو 600 مليون دولار. واعتبرت المعارضة التركية، حزب الشعب الجمهوري خاصة، أن أردوغان انتهك القوانين، لأن القصر بني على محمية زراعية، هي "غابات أتاتورك"، وبذّر أموال الشعب وبنى سلطة لنفسه، في حين رأى أنصاره في القصر الجديد مفخرة للشعب وعكساً لشعار تركيا الجديدة، فيما قرأ آخرون أن بعدم سكن أردوغان قصر "تشانكايا" إنما هو انقلاب على الفكر العلماني الأتاتوركي وأيديولوجية تركيا القديمة والتخلص من الماضي وأخطائه.

والمجمع الرئاسي في أنقرة، أو القصر الأبيض، أو "قصر العدالة والتنمية"، كما يصفه البعض، هو مجمع متكامل وكبير يقع على مساحة 207 آلاف متر مربع، يحمل بصمات العمارة العثمانية والسلجوقية، ويضم نحو 1000 غرفة، كما يضم مسجداً، ومكتبة الأمة، وحدائق، ومراكز ترفيهية وثقافية. ولكن، مهما بلغت تكاليف المجمع الرئاسي في أنقرة ومهما وصل البذخ والرفاهية، فإنه لا يقارن ربما بقصور السلاطين العثمانيين، إن أخذنا زمن كل منهم بالاعتبار، ونقصد القصور المركزية وليس الثانوية التي يسكنها أولياء العهد أو الصدر الأعظم أو المقربون من السلاطين؛ إذ كان المفهوم وقتذاك، أن جمال وعظمة القصور إنما يعكسان قوة الدولة وهيبتها وغناها.

ويأتي قصر الباب العالي، أو توبكابي، في مقدمة تلك القصور، والذي بني بأمر من السلطان محمد الفاتح عام 1478، ليبقى المركز الأساسي لأعمال الدولة العثمانية الإدارية والسياسية لما يفوق 400 عام. كان يتسع قصر الباب العالي لما يقارب 4000 شخص للإقامة والعيش، وكان يعمل فيه أكثر من 6000 آلاف شخص، وتبلغ مساحته 80 ألف متر مربع.

ولا يقل قصر يلدز، ربما، شهرة عن التوب كابي، فقد شيده السلطان سليم الثالث عام 1807 بهدف إهدائه إلى أمه ميهري شاه، لكنه استخدم قصراً مركزياً للسلطان منذ تولي السلطان عبد الحميد الثاني عام 1807، وبقي قصراً للسلاطين ومقراً للحكومة، بدل قصر الدولما باهشة، حتى عام 1922، قبل أن يتعرض للسرقات مراراً، ما دفع الرئيس رجب طيب أردوغان لإعادة ترميمه وتأهيل موجوداته منذ عام 2015، ويتحول لقصر رئاسي في إسطنبول، واستقبل فيه العديد من الرؤساء والزعماء العالميين.

بيد أن لقصر الدولما باهشة، المفتوح اليوم للزوار، حكايات وروايات، فقد عاش آخر ستة سلاطين في الدولة العثمانية فيه حتى سمي "قصر السلاطين"، إذ اعتمدوا القصر مكان إقامتهم ومركز القرار في آخر 125 سنة من عمر الدولة العثمانية. واستمر بناء القصر 12 سنة منذ أصدر السلطان عبد المجيد عام 1843 قرار إنشائه على مساحة 250 ألف متر مربع، وبتكلفة 5 ملايين ليرة ذهبية (أكثر من 1.86 مليار دولار أميركي) بديلاً للباب العالي بإدارة الشؤون الإدارية والسياسية للدولة العثمانية.

ولا يرقى قصر تشيراغان إلى مستوى سابقيه، فبقي قصراً سلطانياً، ولكن للضيوف والإقامة المؤقتة، وجاء قرار إنشاء قصر تشيراغان أيضاً من قبل السلطان العثماني عبد المجيد. وبدأت عملية إنشائه عام 1857، ولكن السلطان عبد المجيد لم يتمكن من رؤيته كاملاً، إذا وافته المنية قبل اكتمال بناء القصر، وعمل أخوه السلطان عبد العزيز على إتمامه، وجرى الانتهاء من عملية إنشائه عام 1871. واستخدم قصر تشيراغان لاستقبال ضيوف الدولة العثمانية، وتوفير الإقامة اللائقة لهم.

وأما قصر بيلار بيي، فأخذ دور المصيف، فهو قصر قضاء العطل وللضيوف الخاصين للسلاطين. وصدر قرار إنشاء قصر بيلار بيي عام 1861، من قبل السلطان العثماني عبد العزيز، وتم عام 1865. واستعمل من قبل السلطان العثماني عبد العزيز مصيفاً وإقامة خاصة لضيوف محددين.

وحين تذكر القصور السلطانية، لا يمكن تجاهل القصر الثانوي لإبراهيم باشا، الوزير الثاني وصهر السلطان العثماني سليمان القانوني (زوج أخته السلطانة خديجة). بناه السلطان القانوني في ميدان السلطان أحمد في حي الفاتح في إسطنبول وأهداه لإبراهيم باشا، فسمي بداية بقصر ميدان السباق، لأنه يقع في منطقة سباق خيل مدينة القسطنطينية، ليأخذ لاحقاً اسم الصدر الأعظم إبراهيم باشا بالقرن السادس عشر.

ويأتي في مقدمة القصور خارج إسطنبول قصر إسحاق باشا، وهو أحد أهم القصور الثانوية التي تأسست في مدينة بعيدة عن إسطنبول. جرى تشييد قصر إسحاق باشا في ناحية دوغبايزيت في مدينة أغري، وصدر قرار إنشائه من قبل والي أغري عبدي باشا عام 1685، وعقب وفاة عبدي باشا، عمل ابنه إسحاق باشا ثم حفيده محمد باشا على إتمامه، وجرى الانتهاء من عملية تشييده عام 1784. يحمل قصر إسحاق باشا روح العمارة العثمانية والسلجوقية والتركمانية.

وبأربلجين ياليسي، نختم القصور الثانوية، فهو من أغلى قصور تركيا غير السلطانية. يقع على مضيق البوسفور على مساحة 5.8 آلاف متر مربع، ويتكون من 64 غرفة، يعرف في إسطنبول باسم نجل السلطان عبد الحميد الثاني شاهزاده برهان الدين أفندي ياليسي. إذ اشترى السلطان القصر لابنه برهان الدين عام 1911، وهو الذي أعطى للقصر هذا الاسم. وفي فترة تأسيس الجمهورية التركية، أعطيت للسلالة العثمانية مهلة ستة أشهر لبيع قصورهم الخاصة الثانوية، واضطر برهان الدين أفندي إلى بيع القصر لأحمد إحسان بك المصري عام 1923. وانتقل القصر في ما بعد، من يد إلى أخرى، وجرى بيعه لعائلة أربلجين التي قامت بتجديده، وأعطته اسمه المعروف اليوم، قبل أن يباع إلى رجل أعمال خليجي بقيمة 100 مليون دولار عام 2015.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد