قصّة المغيلي، الإمام المحارب؟

mainThumb

22-05-2024 01:33 AM

قصة الإمام الشيخ محمد المغيلي ورحلته في الحياة.
عاش في وسط ثقافي في حضن والده. أتقن اللغة العربية وكتب بها على الرغم من الأصول الأمازيغية. تعلم في حاضرة تلمسان في ظل الدولة الزيّانية، على يد العديد من العلماء الكبار الذين كانوا يشكلون في زمانهم، مرجعاً ثقافياً وفكرياً كبيراً.
تأثر كثيراً، علماً وثقافة، بالشيخ محمد بن أحمد بن عيسى المغيلي الشهير بالجلاب، الذي تعلم القرآن ومبادئ الفقه على يده، وقرأ أمهات الكتب والنظر العميق إلى التحولات المجتمعية.
شهد أول انقلاب في تلمسان حينما أزاح أبو عبد الله المتوكل الزيَّاني، وتوّج نفسه سلطاناً على تلمسان في أول فبراير 1462. فقد انقلب على أبو العباس أحمد المعتصم بالله بن أبي حمو الثاني، الملقب بالعاقل، سلطان الدولة الزيانية (30 سنة من الحكم، من 15 مارس 1431 إلى 1 فبراير 1462)، حاول العاقل أن يستعيد حكمه لكنه فشل فقتل في 29 أوت 1463 في العباد حيث تم دفنه. كان العاقل محباً لعلماء تلمسان، حتى قيل إنه قبّل يد الشيخ الحسن بن مخلوف أبركان احتراماً لمقامه العلمي، وجلس بجواره. وعُرِف بالبناء العمراني في المدينة من بين أهم المعالم، المشور، لحماية القصر الذي كان عرضة للهجمات الانقلابية، ومدرسة، ومسجد سيدي الحسن أبركان الذي عرف لاحقاً بمسجد سيدي السنوسي في مدخل درب مسوفة، ومسجد سيدي البناء برحبة الزّرع. ونظراً لشخصيته القوية، فقد ثار ضده الكثير من أفراد عائلته في انقلابات متتالية فاشلة، كان أهمها ثورة حفيد أخيه الأمير أبو زيان محمد المستعين بالله، بن أبي ثابت، حركة ابن تاشفين الثاني بن حمو الثاني الذي انطلق من تونس واستطاع الاستيلاء على جميع أراضي الدولة من الجهة الشرقية، ودخل إلى الجزائر في 16 يناير 1438. بينما استولى ابنه المتوكل على المدية ومليانة وتنس. لكن الأمير بوزيان (والدي المتوكل) قتل في 7 مارس 1440 بتحريض من السلطان العاقل الذي قضى على الثورة وبنى السور الجديد حول قصر المشور. المتوكل الذي نجا من الموت لوجوده في تنس، قاد الانقلاب في 1462 انطلاقاً من مليانة، فضمَّ كل المدن في طريقه إلى تلمسان التي حاصرها لمدة يومين، وفي اليوم الثالث هرب أحمد العاقل إلى العُبَّاد قبل أن يعتقله المتوكل وينفيه إلى الأندلس. عاد من منفاه سراً في 1463 على رأس جيش من القبائل العربية الزناتية، وحاصر تلمسان لمدة 14 يوماً، لكنه فشل في تمرده وقُتِل في 29 أوت 1463. ودفن في العَبَّاد.
من هنا بدأت لحظة وعي الشيخ المغيلي. لم يكن راضياً عن الحاكم الجديد، المتوكل. كان يرى فيه طاغية، بالخصوص بعد مقتل أحمد العاقل الذي أعطى للمدينة من ملامسه، وكان محباً للشيخ أبي مدين الغوث. لا خير في حاكم يبني حكمه على الدم. انتقل بعدها إلى بجاية للتدريس، حيث كانت حاضرة ثقافية حقيقية أخذ منها علم الحديث والتفسير والثقافة العربية الإسلامية. ثم انتقل إلى العاصمة عند كبير المفسرين للقرآن الكريم الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف بن طلحة الثعالبي، صاحب التفسير المعروف “الجواهر الحسان”، وأخذ عنه التربية والصوفية. لازمه مدة طويلة، وتعرف على ابنته زينب التي تزوج بها. ثم عاد إلى تلمسان التي كان ترهيب المثقفين فيها قد وصل إلى السقف، بالخصوص بعد الاعتداء على العلامة الشيخ الونشريسي، الذي غادر تلمسان هارباً، بعد أن تمت مصادرة بيته وأمواله، إلى فاس لينجو بجلده.
خرج المغيلي مرة أخرى، ولكن هذه المرة باتجاه صحراء توات. استقبلته قبيلة بنو سعيد التي عاش في كنفها. اشتغل هناك في التعليم وتربية النشء على العقل، محارباً المعتقدات الخرافية والشعوذة والعلم بالغيب والبِدع. من بين ما لاحظ هناك، سيطرة اليهود على التجارة ومسالكها. خرجوا عن صفة الذمّي، وأصبحوا يقومون بما يؤذي المجتمع المسلم في توات وتمنطيط. يقال إنهم شرعوا في نشر المعتقد اليهودي من خلال العلاقة مع السفن التجارية التي أتتهم إحداها بـ 26 صندوقاً من “التوراة” بهدف توزيعها. فخاض ضدهم حرباً وجودية. فأصدر فتوى في حقهم تحد من سيطرتهم، سماها “مصباح الأرواح في أصول الفلاح” ذكر فيها وجوب هدم كنسهم، فعارضه في ذلك صديقه التلمساني قاضي توات الإمام عبد الله العصنوني، فاسترشد بآراء فقهاء فاس وتلمسان وتونس، فجاءته الموافقة من شيخه محمد بن يوسف السنوسي والشيخ محمد بن عبد الجليل التنسي. بينما فعل الإمام العصنوني الشيء نفسه. لكن المغيلي أمر بهدم الكنيس وأماكن عبادتهم. وناظر علماء فاس الذين أكرموه، حول نازلة اليهود.
ثم عاد إلى توات قبل أن يخرج نحو السودان الغربي، فبنى في طريقه، في أغاديس، مسجداً لتدريس القرآن واللغة العربية. توجه بعدها إلى كانو، شمال نيجيريا، والتقى بحاكمها محمد ريمفا، وحضه على اتباع الدين والعدل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونظراً لعمله الجاد، أصبح المغيلي مستشاراً في قصر ريمفا، فولّاه هذا الأخير القضاء والإفتاء. انتقل بعدها إلى كتشنا، شمال نيجريا، فالتقى بسلطانها إبراهيم ماجي الثاني، ويواصل خروجه إلى غاو، عاصمة بلاد سينغاي، في 1498، وسلطانها الحاج محمد أسكيا. عينه هذا الأخير مستشاراً دينياً وسياسياً، ووجه له أسئلة كانت تشغل السودان الغربي، فرد عليها في رسالة مهمة هي في النهاية تجسد وسائل سبل دوام الحكم وانهياره. ونصح بمنح الأبوة للزوج في مجتمع الطوارق.
عندما وصله خبر مقتل ابنه من طرف يهود توات وجماعة العصنوني، حزن وطلب من الحاكم إلقاء القبض على يهود توات واللاجئين إلى غاو، قبل أن يتراجع بعد تبرئتهم من طرف القاضي محمود بن عمر. عاد المغيلي إلى توات التي وجد تجارتها قد انهارت وخسرت موقعها كمنطقة عبور القوافل. نحا نحو الصوفية القادرية في زاويته، كونته، التي انعزل فيها حتى وفاته في سنة 1503.

(القدس العربي)


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد