استباحة العالم العربي وحلم إسرائيل الكبرى

mainThumb

20-08-2025 09:48 AM

كاد نتنياهو يقول إنه آخر الأنبياء المكلفين برسالة وجود، مكلف بمهمة توراتية يلتبس فيها الديني بالسياسي بالعنصري بالاستعماري. هكذا صرح نتنياهو وهو يعبر عن فكرة «إسرائيل الكبرى». الفكرة لم تعد سراً، ومنذ زمن بعيد. لا غرابة في ذلك؛ فهي تعبير عضوي إحلالي، ناتج من البنية الفكرية للصهيونية الدينية التوراتية، لاستعادة «الزمن الضائع» الذي هو عبارة عن حفنة أساطير وقصص قديم أكثر منها حقائق. الجديد في الموضوع هذه المرة، هو أن الغطرسة الصهيونية الحديثة المنتشية بانتصاراتها (وضمان الحليف الأمريكي) وسط عالم أوروبي، تحديداً، مشلول بسبب تاريخ «الهولوكوست»، أصبحت معلنة في ظل غياب أي رقيب محلي أو دولي، بل أية ردة فعل حقيقية عربية أيضاً ما دام الأمر يتعلق بأراضيهم؟ الغرب الاستعماري الذي أباد ظلماً أكثر من ستة ملايين يهودي، وقرابة المليون من الغجر، لا يحب «اليهودي الضال» ولا يحب الغجري القريب من «البهائمية»، بل تهمّه مصالحه وصورته «الحضارية» الكاذبة. تعاطفه مع إسرائيل رغبة مبطنة فيه لتفادي عقدة «الجريمة الكبر» التي يتحمل مسؤوليتها وحده ولا علاقة للعرب بها، ليدفعوا ثمن جريمة ضد الإنسانية ارتكبها آخرون. العرب بهذا المنطق، أكثر أهلية للمطالبة بحقهم، بل ومعاقبة «إسرائيل» ولجم أطماعها. من يتذكر الرئيس ترامب أول ما اعتلى كرسي الرئاسة: «مساحة إسرائيل تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكرت كيف يمكن توسيعها.
كلام واضح وخطير، لم يتلق أية ردة فعل عربية حقيقية. كيف يمكن توسيعها؟ سيمر ذلك حتماً من الأراضي العربية المحاذية. ماذا فعل العرب لمواجهة ما كان يبدو حلماً دينياً وسياسياً وأصبح واقعاً مدعماً من أكبر قوة عالمية؟ لا شيء. لا شيء أبداً. ولا توجد أية استراتيجية لمواجهة هذه الأطماع المعلنة. حتى عندما يتسلح العرب للدفاع عن أنفسهم كما جميع الأمم، ويدفعون الثمن غالياً، فكل شيء موضوع تحت الرقابة الصهيونية من البائع نفسه، بحيث لا صفقة تسليح تخلّ بالتوازن العسكري بين «إسرائيل» وجيرانها العرب. يجب أن تظل القوة المطلقة لإسرائيل، هذا هو العنصر الثابت والمطلق في أي عملية بيع للسلاح.
لقد كان رهان إسرائيل الخفي من وراء حروبها هو تحييد «القوة العربية» قبل الإجهاز عليها، ومنع العرب بكل الوسائل، حتى ولو أدى الأمر إلى اختراق أراضيهم وسمائهم دون الإعلان عن ذلك، من الحصول على النووي.
لقد تم تحييد مصر كأهم قوة عربية عسكرياً، من خلال اتفاق سلام «كامب ديفيد» اخترقته إسرائيل في غزة والعريش دون أي اعتبار لوثائق متفق عليها تمنعها من ذلك. أصبحت فجأة القوة العربية المقاومة التي خاضت حروباً قاسية كادت تكسر إسرائيل لولا التدخلات الغربية المعروفة من العدوان الثلاثي إلى أمريكا، منقوصة من قوة عربية ضاربة أساسية. هذه الاتفاقيات مجتمعة، أفقها تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى، بخسارات أقل. وهو ما لم يدركه العرب، أو أنهم وضعوا غطاء أسود Bandeau noir على عيونهم كالمحكوم عليهم بالإعدام. واستمر الوضع التاريخي في تقليم أظافر العرب وكأن شيئاً لم يحدث. أراد الغرب إضعاف العراق وإيران في حرب مجنونة غير مسبوقة، وبلا هدف واضح سوى الغطرسة. نتائجها التي لم يكن الغرب يريدها، جعلت من العراق أعظم قوة عسكرية عربية من المنطقة، ويجب تدميرها. أصبحت خطراً حقيقياً على إسرائيل وحلمها الصهيوني، وبدأ العمل بهذا الاتجاه. وكانت فكرة النووي العراقي (حتى ولو كان مجرد نواة وفي مراحله الأولى) أهم سند تدميري. كشف التاريخ الكذبة الكبيرة بشهادة الفاعلين العسكريين الأمريكيين، لكن من يهتم بمتابعة الكاذب ودفعه نحو المحاكم الدولية؟ لا تكفي الشهادات التي تفضح المؤسسة العسكرية الأمريكية- الأوروبية. وأعطيت كل الضمانات للرئيس صدام حسين لاحتلال الكويت؟ كُسر لحظتها ما تبقى من تضامن عربي ممكن. وتمّ الإجهاز كلياً على ثاني قوة عربية قائمة، اشترك العرب في حرب خاسرة لم تكن لهم، بل كانت ضدهم على الأمد المتوسط والبعيد. والغريب أن صدام كان هو الوسيلة الأولى لتدمير قوته الصاعدة. كيف صدق الضمانات الأمريكية، عن طريق سفيرتها، للتوغل في بلد شقيق مستقل، بحجة أن المسألة عربية عربية ولا شأن لأمريكا بها. بضربة واحدة استراتيجية، تم تدمير التحالف العربي ضد العدو المشترك الذي نهب أموالهم وأراضيهم. وأرجع العراق، البلد الحضاري والمقاوم والحالم بالنووي، إلى الوراء بأكثر من مئة سنة. وتم تدمير الدولة كمؤسسات وكل الميراث التاريخي والعسكري. وكأن الحرب العسكرية لا تمس فقط سلاح الطيران والدبابات والبحرية، ولكن النهب الحضاري كان أخطر. فقد سرقت من متحف بغداد قطع أثرية نادرة وسيق الكثير منها إلى المتاحف الإسرائيلية. في 10 أبريل 2003 اقتحمت مجموعة منظمة المتحف الوطني العراقي وانتقت سرقاتها التي لها طابع تاريخي وحضاري مهم. وعلى الرغم من مقاومة الموظفين وتمكنهم من تخزين 8366 قطعة، تم نهب 15 ألف قطعة في أقل من يومين. وعلى الرغم من استعادة ثلثها تقريباً، ما يزال أهمها ضائعاً ومسروقاً ولن يظهر إلا بعد عشرات السنين. «إسرائيل» تشتغل على الزمن. وقامت «داعش» صنيعة المخابر الإسرائيلية والغربية الاستعمارية، بإنهاء مهمة النهب والتحطيم، ومسح مدينة النمرود (كالخو الآشورية) ليس بعيداً عن الموصل، بكل ما تحمل من ذخائر. وتم وضع العراق في دائرة الموت الذاتي بتنشيط النزعات الدينية والقومية، وفبركة التطرف الإسلامي الذي لم يعرفه العراق في السابق بتلك الكثافة، اعتماداً على «نظرية» التدمير الذاتي عن طريق إسلام المخابر.
واقع غزة فضح كل شيء. إسلام المخابر (القاعدة وداعش وتفرعاتهما) لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد إسرائيل، وتم تحييد العراق كقوة ضاربة في المنطقة، وتم تدمير ليس فقط البرنامج النووي ولكن اغتيال بنيته التحتية بكل علمائها.
كان العراق العتبة الثانية في تشييد المشروع الصهيوني: إسرائيل الكبرى. بقيت سوريا الغارقة في ثورة معقدة مبررها محاربة التكلس السياسي وجرائم النظام، لكن إدارتها ميدانياً كانت ليس فقط متعددة دولياً، فاليد الإسرائيلية كانت كبيرة دون أن يطعن ذلك في مصداقية الكثير من المناضلين. فوجئ الشعب السوري بشخص ليس من الجيش الحر الذي استمات في نضاله ودفع الثمن غالياً من الشهداء، ولكن من رجل داعشي، وليد المخابر الإسرائيلية والغرب الاستعماري. منذ سقوط النظام وهو يرسل الإشارات لإسرائيل التي دمرت بنيته العسكرية دون أن يحرك النظام ساكناً. أحرقت الطائرات والدبابات والسفن الحربية والذخيرة الحربية دون أن يرفع الأصبع الصغير. أصبحت سماء وأرض سوريا مستباحة كلياً أكثر مما كانت عليه.
طار جبل الشيخ وجزء كبير من الأراضي السورية ليتدخل بشكل سافر ويفرض حماية الدروز. الآن، تم إنجاز المهمة الكبرى: تدمير قوة العالم العربي المناهضة بكاملها، لدرجة أن إسرائيل اليوم تستطيع أن تفرض ما تريد على العرب، وتستطيع بقنبلة واحدة أن تقتلهم عطشاً وتعيدهم إلى البدائية الأولى. «إسرائيل» بنيت على القوة، ولا تهزم إلا بقوة موازية.
أصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه لتشييد إسرائيل الكبرى. والمؤسسات الدولية الكبرى التي لم تتحرك في جرائم الإبادة في غزة، لن تتحرك لتوقيف مشروع خطير ينهي العالم العربي كما عرفنا، ويفرض خرائط أخرى أكثر مأساوية من فلسطين.
تصريح نتنياهو تعبير عن خلو العالم العربي من هذه القوة المقاومة ومن أية استراتيجية للمواجهة. لم يبق أمامهم إلا البحث عن حلفاء جدد خارج الحلفاء التقليديين.
العالم يتغير بسرعة، ونحتاج إلى حليف حقيقي. يريدون «إسرائيل الكبرى»؛ أي التهام الجزء الأغنى من العالم العربي. وعلى العرب ألا يكتفوا بالصراخ، ولكن بالعمل على ترتيب هذه الاستراتيجية السياسية العسكرية. دونها، محكوم عليهم بالاندثار، وهذا لن يحزن الصهيونية مطلقاً، التي حلمت على مدار تاريخها بعزل العرب وتفريقهم وإنهائهم ثم الدفع بالأحياء نحو البدائية ليموتوا عطشاً وجوعاً. ومأساة غزة ليست إلا مخبراً صغيراً بشكل حي ومباشر لدراسة ردود فعل المكسور والجائع والفاقد لكل رجاء. أملاً ألا يحدث هذا…



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد