سوريا الجديدة: خسائر روسيا مكاسب أوكرانيا

mainThumb

03-01-2025 01:35 AM

يسيطر الحدث السوري بلا منازع تقريباً على حديث الفضائيات عبر العالم، إذ رغم أن الحرب الأهلية في ذلك البلد استمرت لأكثر من عقد، إلا أن السقوط السريع والغامض لنظام بشار الأسد كان مفاجئاً للكثيرين، ووضع أطرافاً عدة في الإقليم في مواجهة استحقاقات متسارعة لإعادة تشكيل سوريا تحت الحكم الجديد.
وكما كل تغيير، فإن ثمة خاسرين ورابحين جراء ما حدث. إيران مثلاً، التي دعمت النظام السوري السابق عسكريّاً ومالياً وجدت نفسها وقد خسرت جسر عبورها نحو لبنان، حيث حزب الله حليفها الأثير، وفقدت الإمكانية النظريّة لتحصيل ديونها على الدّولة السوريّة، وبالكاد حافظت على حماية شكليّة للمقامات الشيعيّة في العاصمة دمشق. واستتباعاً خسر حزب الله اللبناني حبل السرّة الذي كان يمده بالعتاد والأموال دون المرور في القنوات العلنية الخاضعة للرقابة الأمريكية اللصيقة.
لا شكّ أن رسائل سقوط حليف روسيا والصين في الشرق الأوسط قد وصلت أيضاً إلى كاراكاس (فنزويلا) و(بيونغ يانغ)، حيث تذكرت الأنظمة المعادية للولايات المتحدة أن واشنطن لا تنام. على أن الخاسر الأكبر من كل ما جرى تظل روسيا، التي تلقت ما يمكن اعتباره أسوأ هزيمة استراتيجية لها في هذا القرن.

الخاسر الأكبر: روسيا

مرحلياً يظلّ تركيز روسيا الأساسي جبهتها المفتوحة مع الغرب في أوكرانيا، سواء عسكريّاً على الأرض هناك، أو في مواجهة الحصار الاقتصادي الغربيّ الخانق، لكن سقوط نظام الأسد يمثل لها انتكاسة استراتيجيّة ستكون لها تداعيات محتمة على النفوذ الروسي كقطب دوليّ، وينسحب على صورة الرئيس بوتين في الداخل الروسي، سواء لناحية التأييد الشعبيّ – الذي يحتاجه كثيراً في خضم حربه على أوكرانيا – أو حتى في نطاق تموضعه داخل موازين القوى داخل النظام في موسكو.
لقد كان للوجود الروسيّ في سوريا طوال تسع سنوات (بداية من 2015) العديد من المزايا، إذ عزز نجاح عمليات الجيش الروسيّ العسكرية ودوره الفاعل على الأراضي السورية في مواجهة تنظيمات المعارضة السوريّة مكانة الاتحاد الروسيّ كقوة عظمى لها دورها في مشهديّة الحرب ضد الإرهاب الدولي (داعش)، ومثّل وجود قواعد عسكرية له في قلب مياه البحر الأبيض المتوسط خارج نطاق المصالح الروسية التقليدي على طول حدودها المباشرة نقلة نوعيّة في قلب منطقة بدا أن الولايات المتحدة تهيمن عليها بالكامل.
على أن هذه الشكليات اللازمة لتدعيم صورة نظام بوتين داخلياً كانت وراءها وظائف لوجستية مهمة أيضاً، إذ أن سوريا مثلت نقطة ارتكاز للوجود الروسيّ في بعض أنحاء القارة الأفريقيّة، ومنحت الروس أوراق قوة في علاقاتها اللدودة بإيران وتركيا، وفوق ذلك كله سمح النفوذ الروسي في سوريا لموسكو بتعطيل مشاريع خطوط أنابيب الغاز الطبيعي المحتملة من الخليج العربي إلى أوروبا، والتي يمكنها أن تنهي بشكل كليّ عقوداً من اعتماد القارة القديمة على إمدادات النفط والغاز الروسيّة.
مع سقوط النظام السوري تبخرت كل هذه المزايا التي تمتعت بها روسيا، وبالكاد تجنبت إذلالاً تاماً عبر سلسلة إجراءات لحفظ ماء الوجه خلال إخراج الأسد من سوريا، وتوافقها مع الحكام الجدد على حماية سفارتها وأمن دبلوماسييها في دمشق، وعلى عدم المس مباشرة بقواعدها في طرطوس وحميميم، وشرعت في برنامج غير معلن لتقليص تواجد قواتها هناك، ونقل المعدات والأسلحة النوعيّة إلى روسيا أو شرقي ليبيا – حيث قوات الجنرال حفتر حليفها هناك – وهناك اتصالات على مستوى ما مع حكام سوريا الجدد لمقايضة بقاء ولو رمزي لتلك القواعد العسكريّة مقابل الاعتراف الرسمي بهم.
بالطبع حاول بوتين في خطاب تلفزيوني مطوّل له إلقاء اللوم في ما جرى على الآخرين، لكن تقييم النظام الروسي في ما يبدو يتجه إلى الاعتقاد بان انتصاراً في أوكرانيا من شأنه أن يخفف من أثر الهزيمة في سوريا التي سيتلاشى أثرها السلبي على المدى البعيد، ربّما على النسق الذي حدث للإهانة الشكلية – لكن البليغة – النّاجمة عن انسحاب الولايات المتحدة المتعجّل من أفغانستان، لكن تلك تظل مقامرة مستندة إلى إمكانية تحقيق نصر ما على أوكرانيا، في وقت لا يزال فيه الغرب مصراً – إلى الآن على الأقل – على منع روسيا منه ولو بأثمان كثيرة، ناهيك أن عدم الاستقرار المزمن في ليبيا قد يؤدي بشكل أو آخر إلى خسارة نقطة الارتكاز البديلة عن سوريا هناك، ما يجعل المصالح الروسية عبر أفريقيا في موقع الضعف.

مستفيد ثان: أوكرانيا

وفي الجانب الثاني من أصحاب الخسارات من سقوط النظام السوريّ، فإن ثمة رابحين، على رأسهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الإقليميون كلزز لأسبابه المختلفة، لكن وبحكم العلاقة الصفريّة بين موسكو وكييف، فإن كل خسارة لروسيا هي بالضرورة مكسب لأوكرانيا.
ولم يتأخر الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي كثيراً في قطف الثمرة التي سقطت في حجره، فأوفد سريعاً وزيري الخارجية والزراعة للقاء القادة السوريين الجدد في مسعى دبلوماسي لإقامة علاقات وثيقة مع سوريا ما بعد سقوط الأسد، وأعلن بأن بلاده «مستعدة لتطوير علاقات استراتيجية طويلة الأجل» مع سوريا الجديدة وتريد المساعدة في تزويد البلد المنهك بالحصار والحرب بالإمدادات الغذائية التي تشتد الحاجة إليها، بما في ذلك شحنة أوليّة من دقيق القمح في إطار برنامج «الحبوب من أوكرانيا» الإنساني بالشراكة مع برنامج الأغذية العالمي، في وقت علقت فيه روسيا إمداداتها التي كانت أساسيّة طوال السنوات الماضية لإبعاد شبح الجوع عن أغلبية السوريين.
ولم يخف وزير الخارجية الأوكراني أندريه سيبيها شماتته بسقوط النظام السوري الديكتاتوري السابق – الذي كان اعترف بضم روسيا لأجزاء من شرق أوكرانيا بعد غزو 2022 – فقال للصحافيين في دمشق إن نظامي بوتين والأسد دعما بعضهما البعض لأنهما يشتركان في أن «أساس حكمهما العنف والاضطهاد»، لكن ذلك أيضاً مكسب عملي للنظام في كييف الذي لا بد مع دفء العلاقات المستجد يمكن أن ينسج شراكات تجارية وصناعية وتقنيّة ذات مردود في سوق مهمة مثل سوريا المتعطشة إلى إعادة إعمار خراب امتد 14 عاماً من الحرب.

موازين قوة مستجدة: ترامب ليس مغفلاً

سيكون عام 2025 حاسماً بشأن المسار الذي ستأخذه الحرب في أوكرانيا مع اقتراب موعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهام منصبه هذا الشهر، وهو الذي كان وعد العالم بصفقة تنهي النزاع هناك. لكن ما قبل سقوط النظام السوري السابق ليس كما بعده، ولا شك أن الجانب الأمريكي والإدارة الجديدة تحديداً ليسوا مغفلين كي يمنحوا بوتين الصفقة ذاتها الآن مع تراجع أوراق قوته الملحوظ عالمياً ومحلياً، وسيكون محتماً على الرئيس بوتين القبول بسقوف أدنى لمطالبه في أوكرانيا إن هو رغب في وقف النزاع سلمياً.
والأمر هكذا، وبينما تتقاطع القوى الدولية الإقليمية على إعادة ترتيب أوراقها بعد تغيير الحكم في سوريا، فإن الأمل يبقى أن تستعيد هذه البلاد العظيمة أمنها واستقرارها وازدهاراً حُرم منه شعبها طوال عقود، وأن يتسنى للدولة السوريّة أن تأخذ مكانها الذي تستحق على رقعة شطرنج العلاقات الدوليّة.

إعلامية وكاتبة – لندن



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد