إنها لحظة التخلي

mainThumb

18-04-2025 01:50 PM

ستقتلنا فردانيتنا، ستتركنا لقمة سائغة في أفواه أعداء إباديين لا رحمة لديهم ولا شفقة، لا يتكلمون سوى بلغة الدولار ولا يسلكون سوى السلوك الموصل إليه. هذا كان موضوع المقال السابق الذي يتواصل ها هنا بفكرة كيف أن الفردانية أو the individuality حين تستقر في السلوكيات وفي المواقف تجاه القضايا الإنسانية إنما هي تقضي عليها بكل استحقاقاتها، وتقتل أصحابها بكل مواقفهم المبدئية، حيث تشرذمهم بفكرة استحقاق تفردهم في الرأي، هذا الاستحقاق الذي يفرقهم ويضعف شوكتهم إذا ما تم تنفيذه بأنانية ورعونة.
ولطالما عبّرت الفردانية عن قفزة تطورية حقيقية في التاريخ الإنساني، فقد عززت الفردانية مقدار الفرد وأضفت قيمة على فكرته ولو انفردت، على مهارته ولو صغرت، على وجوده ولو تضاءل طبقياً واجتماعياً واقتصادياً. ولقد كان لذات الفردانية أهمية كبيرة في إحداث نقلة أدبية نوعية، حولت عالم الأدب من التركيز على الملوك والعظماء و«الرجال» الأبطال، إلى الإنسان بكل صيغه التي كان ينظر إليها على أنها غير ذات قيمة. فبعد أن انتقل الأدب مع العصر النيوكلاسيكي والرومانتيكي من الجماعية إلى الفردانية، بدأت الأعمال الأدبية تتناول في موضوعاتها أشخاصاً كان ينظر لهم على أنهم غير ذوي قيمة، حيث كان يجمع على استحالة كونهم المحور الذي يدور حوله أي عمل أدبي في تلك العصور، مثل شخوص المرأة والطفل والإنسان الفقير وغير الأبيض والمعاق وغيرهم. هذه النقلة إلى الفردانية صاحبتها نقلة إلى الواقعية، ليَنْصَب الأدب على الواقع، شاحذاً منه مواضيعه ومتناولاً له في أعمال خارقة صنعت عالماً خيالياً مهماً موازياً للعالم الحقيقي، هذا إذا كان هناك عالم حقيقي نعيشه ونعيش فيه.
وهكذا تطورت الفردانية، وتداخلت في تشكيل حركات فلسفية مهمة، على رأسها الحركة الليبرالية التي تنحو لرفع قيمة الفرد وتحرير رأيه وتعزيز حقه فيه مهما اختلف وانفرد. إلى زمن قريب. كنت أنظر لهذه الفردانية على أنها صورة من صور الخلاص البشري من الطغيان والقمع والظلم، لكنها اليوم انقلبت إلى صورة من صور الإضعاف والاستغلال والهدم، بنحوها منحى متطرفاً، الذي عزل الآراء الجيدة عن بعضها وشرذمها بتشرذم تفاصيلها، فانقسم الناس إلى فئات الفئات بحسب تنوع واختلاف آرائهم مهما بلغ صغر هذا التنوع أو ذاك الاختلاف.
لست هنا أنقلب على الفردانية، فهذه النزعة التطورية هي نزعة غاية في الأهمية فلسفياً وفكرياً، بل وحقوقياً وإنسانياً بلا شك أيضاً. إلا أنني ها هنا أعيد وإياكم التفكير في تنفيذها وطريقة ممارستها. تعزز وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً فكرة الفردانية «لينفرد» كل إنسان بنفسه خلف شاشته الزجاجية، فيمعن نقداً وذماً، وإهانة وقذفاً في أعدائه، محتمياً خلف هذه الفردانية ووسيلة التواصل التي مكنته منها. لقد عززت وسائل التواصل المنحى الفرداني بتفرد كل صوت بحسابه وبالتمكن من الفرار من مسؤولية القول والفعل الفردي تخفياً خلف الحسابات والأسماء الوهمية. لقد عززت وسائل التواصل صوراً مسيئة من الفردانية في حين أننا تمنينا تحقيقها لتواصل بشري غير مسبوق، كما أنها أسقطت اللغة وسلوكيات وأخلاقيات التواصل إلى الحضيض بتعزيز شعور كل فرد بحريته التامة بقول ما يريد وبتمكنه الكامل من فعل ذلك دون تداعيات قانونية أو سمعاتية تهدد صورته بين الناس. فهل اتساع الحرية ها هنا، والذي طالما آمنت أنا به كمبدأ بإطلاقه، يتهدد أمننا وسلامنا كبشر؟ هذا موضوع لمقال قادم.
في التجارب المتلاحقة مع الفردانية، كان لها بجانب وجهها المضيء وجوه أخرى عدة مظلمة. ففي تفرد الأشخاص في أي حراك ليبرالي بآرائهم ومواقفهم، تفتت الصف الليبرالي العربي تماماً، ومع طبقية هذا الصف وفوقيته الاجتماعية والفكرية والاقتصادية، انقطع عن الشارع العام تماماً ومات قبل أن يرتص ويتشكل. وفي تفرد الأشخاص بمواقفهم السياسية في مجلس الأمة الكويتي بغياب التشكيلات الحزبية، ماتت المشاريع الإصلاحية في مهدها، وشُل العمل تماماً متكسراً على وقع ضربات الخلافات الشخصية وتشتت الأصوات، ودار المجلس لسنوات حول نفسه دون إنجاز كبير يذكر وإن شكل صمام أمان كبيراً للكويتيين ولديموقراطيتهم القديمة، وفي تفرد كل البشر بأصواتهم ومنصاتهم على وسائل التواصل دون غربلة ودون تعريف بالهوية ودون عواقب تذكر، تشتت الخير بين شر كثير، وتاه حسن الخلق وأدب التعامل في دروب الجرأة والانفلات والبطولة الحديثة المزيفة التي عنوانها أن كلما ساء أدبك كنت أكثر بطولة وشهرة. وضاعت القيمة الحقيقية للمعرفة في دروب التسلية المفرغة من المعنى وفي حوارات التفاهة والسخف، التي تأخذ العقل البشري الذي طالما ناضل من أجل حضارته، إلى منعطف خطير.
فردانيتك مهمة جداً لوجودك، لقيمتك الذاتية وتميزك البشري، ولكنها مدمرة إذا استُخدمت لإضعافك، ولإخبارك أن صوتك منفرداً غير مفيد، وأن جهدك منفرداً غير قادر على تقديم شيء. هنا فردانية صوتك وموقفك في الحق هو ثورة صغيرة أخلاقية، وهي بلا شك ستستجذب أصواتاً ومواقف أخرى، وستنتهي إلى جماعة صلبة متماسكة تحدث التغيير المطلوب. نحن نسير على ممشى تاريخي طويل، قد يبدو لك مظلماً، وقد يحبطك عدم القدرة على رؤية نهايته، إلا أن كل خطوة تأخذها عليه تدفع البشرية للأمام باتجاه الخلاص، كل خطوة تأخذها ستشحذ خطوات أخرى، لتجمع على دربك جماعة وَجَدَت في فردانيتك قيمة، ولتحقق فردانيتك ها هنا القيمة الجماعية المنشودة.
أنت لا تهتم ولا تشعر بما يحدث في غزة؟ الكلام هنا لا يهمك، فأنت لست في محل قراءة مقال، أنت تحتاج لعلاج نفسي عميق وعاجل لأنك الآن تقريباً «زومبي»، فاقد الإنسانية التي تفرق الجنس البشري عن غيره من الكائنات الحية وغير الحية. أنت متعب ومحترق الهمة ولا تجد في نفسك أي طاقة للتحرك؟ ليكن، لتكن متعباً مكسور القلب مهتزاً من الأعماق بما ترى وتسمع، أتقارن معاناتك النفسية بما يحدث لأهل غزة؟ استمر، حديثاً ونشراً ومقاطعة وتبرعاً، استمر في مواجهة الأخبار ولا تشح بوجهك عنها، ضع خطوة أمام أخرى ولو كنت بالكاد تأخذها. الطريق طويل ووعر بلا شك، لكنه لن يُقطع دون خطواتنا مجتمعة. إنها اللحظة التي نتخلى فيها عن فردانيتنا، مهما كانت مهمة ومهما كان وجع ما يفرقنا وإلحاحه، لنصبح قوة ونصنع جبهة أمام هؤلاء الذين يقذفون بأعتى أسلحتهم وأكثرها تطوراً وتدميراً على مدنيين وأطفال. إذا لم نجتمع الآن، فمتى؟






تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد