التحطيب الجائر

mainThumb

31-05-2025 02:27 AM

افي أعالي الجبال وسفوح الوديان، حيث كانت الأشجار تعانق السماء، وتنسج من خضرتها بساطا من الحياة، تدور حرب صامتة لا يسمع صراخها إلا من أصغى لقلب الطبيعة. حرب لا تخاض بالسيوف، ولا بالدبابات، بل بماتور صغير بصوت خافت، لكنه أشد فتكا من كل ضجيج. إنه الماتور الصامت، السلاح الحديث في معركة التحطيب الجائر، الذي يشق جذوع الأشجار كانما يشق شرايين الغابة، يتركها تنزف بصمت ثم تموت واقفة بلا صراخ ولا دموع.
الغابات ليست مجرد أشجار، إنها رئة الأردن التي نتنفس منها، وماؤها الذي يتغلغل في أعماق الأرض، وسر جمالها الذي يسحر النظر، ويزرع في النفس سكينة لا توصف. في عجلون وجرش، الغابات كانت أشبه بمرافئ سلام، ظلالها مأوى للعصافير، وتربتها دفء للحيوانات، ونسيمها صلاة يومية تتهامس بها الأرواح.
لكن اليوم، يتسلل الماتور الصامت في العتمة، كجريمة بلا شهود. يقطع، ويشرح، ويجمع، وكان الأشجار ليست كائنات حية، بل أخشاب تنتظر لحظة البيع. تحمل على الشاحنات كما تحمل الأجساد في الحروب، تفكك من جذورها كما تقتلع الأعضاء من جسد انسان حي. تجارة قاتلة تشبه في وحشيتها تجارة الأعضاء، فكل شجرة تقطع هي روح تزهق، وملاذ يدمر، وتوازن يخل.
المساحات الخضراء تتراجع، ليس فقط على الخارطة، بل في قلوب الناس ايضا. تراجع الغابات يعني تراجع الجمال، وتراجع الأمل، وتراجع السياحة التي كانت تتغذى على سحر الطبيعة. كيف يقبل الزائر على أرض فقدت لونها الأخضر، وصوت عصافيرها، وعطر ترابها المبتل بالمطر؟ كيف تحيا المدن حين تختنق الرئة، ويغيب الأوكسجين؟
والكارثة لا تقف عند حد الجمال والسياحة، بل تتعداها إلى ما هو أعمق وأشد خطورة. الحيوانات تهجر، الطيور تهاجر، كانما الغابة تلفظ أنفاسها الأخيرة. السناجب التي كانت تتراقص بين الظلال لم تعد تجد مأمنا، الطيور التي كانت تبني أعشاشها فوق الأغصان أصبحت تبحث عن وطن جديد. هل رأيتم يوما موطنا يهجر طيوره وأحلامه؟
الغابات في عجلون وجرش كانت لوحة فنية رسمتها الطبيعة بريشة من ضوء وندى، كانت تتهادى خضراء كالعروس في ثوبها المطرز بالندى والنسيم، لكنها اليوم تنزف تحت وطأة هذا النزيف الصامت. نحن لا نخسر شجرة فحسب حين تقطع، بل نخسر منظومة حياة كاملة. نخسر المطر الذي كانت الأشجار تستدره من السماء، ونخسر التربة التي كانت تحميها من الانجراف، ونخسر الهواء النقي، بل نخسر وجها من وجوه الوطن.
إن بيع المواتير الصامتة دون رقيب أو حسيب هو كالسماح بتوزيع أدوات الجريمة على الملأ. نحتاج إلى قانون لا لحظر البيع فقط، بل لحماية الحياة. نحتاج إلى من يحرس الأشجار كما نحرس الأطفال، إلى من يرى في الغابة كائنا حيا يستحق الاحترام، لا مادة خاما للبيع.
أيها الزارعون للموت في قلب الغابات، تذكروا أن الغابة ليست ملكا لكم، إنها ملك للأجيال القادمة، ملك للأرض التي لا تفرط في حبها وعطائها. دعوا الغابة تنمو وتتنفس، دعوها تحكي حكايتها الخضراء في سماء الأردن، وفي روح كل من يعشق هذا التراب الطيب. هكذا فقط نكون أوفياء للأرض، أوفياء للأشجار، أوفياء للغابات التي تعلمنا منها الصبر، والظل، والمطر، والحنين.
الغابة ليست فقط مكانا، بل ذاكرة وطنية، قصة تروى، وأناشيد حنين. إذا فقدناها، فقدنا جزءا من ذواتنا، من هويتنا، من تفاصيلنا الصغيرة التي تشكلنا دون أن نشعر.
فلنرفع الصوت في وجه هذه الحرب الصامتة. لنقل لا للتحطيب الجائر، لا لقطع الأشجار من أجل حفنة دنانير، لا لموت الغابات تحت سن منشار بلا قلب. لنحم ما تبقى من جمال، قبل أن نصحو ذات يوم على وطن بلا ظل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد