بشير البكر… مسافرا بين قصائد وأمكنة

mainThumb

14-06-2025 02:51 AM

غادر بيته بحثا عن بلاد، بحثا عن ضوء يمحو العتمة التي عاش فيها، وطاف في الأرجاء، بين مدن ومطارات، بين حياة مرئية وأخرى في الخفاء، طال التّرحال ولم يستقرّ به مقام. ركب حافلات وقطارات وطائرات، عاش بين منفى وآخر، بين رحيل وترحال، قابل أشخاصا من المشاهير، وجالس كبار الكتّاب، مثلما قابل آخرين مرّوا عليه من دون أن يتركوا ذكرى، ولم يكن في حاجة إلى كاميرا من أجل توثيق ألبوم ذكريات، بل كان يحفظ الوجوه والأسماء في الذاكرة. طاف بين البقاع، بين قارات ثلاث، وأدرك في الختام أن خروجه من البيت إنّما الغاية منه البحث عن قصيدة، عن الشعر. أدرك أن الأدب هو البلاد التي يرجوها، وقد طال انتظاره من أجل الوصول إليها. فالأدب بلاد لا ترسمها حدود، بل ترسمها المخيلة، وهي أوسع البلدان في أرض الله الشاسعة. ذلك ما يحكيه بشير البكر في «بلاد لا تشبه الأحلام» (نوفل، 2025).
في هذا الكتاب حيث السرد يصير قصيدة، وحيث القصيدة هي سيرة صاحبها، والرحلة هي الوجه الآخر من حياة الإنسان. في هذه السيرة يروي المؤلف أشياء عاشها وأخرى تمنّى أن يعيشها، ويكتب بلغة عذبة عن مشقّة أن تصير كاتبا من سوريا، حيث لا يعرف إلى أي أرض يعود ولا بأي تاريخ يفاخر. ولكن بشير البكر في جولاته، لم يتخلّ عن ذكرى الأمكنة في الحسكة، يتذكّر ما حصل له في حلب أو ما جاورها، يتذكّر سوريا أخرى تختلف عن سوريا في الزّمن الحاضر. فقد غادر بلاده في الواقع، وظلّ يعود إليها في المنام. غادر المكان من غير أن يكفّ عن اشتياق دفين إليه. لم يقطع الحبل السرّي الذي يوصله إلى أمكنة الصّبا، لكن الأمكنة تعددت في وقت لاحق، وصار يعيش خارج المكان، يؤسس بلدا له في جنّة الشعر. وكأنه يخبر القارئ أن الشاعر مثل الكاتب عليه أن يتحمّل لعنة، أن يرضى بقدر مثل أقدار الإغريق، الذين كانوا يبتكرون آلهة من أجل الانتقام منها، وكذلك الحال في أكثر من بلاد عربية، نلد شعراء كي نتبرّأ منهم، كي نحيلهم إلى سنوات من الجمر والتّيهان. نعرضهم إلى النّفي ثم نحمّلهم وزر اختيار المنافي.

وفي هذا الكتاب لا يتوقّع القارئ أن يصادف سيرة عادية، كتبت بطريقة خطية، بل هي سيرة متشظية، لا يحكمها معيار الزمن أو ترتب الأحداث والوقائع، بل يحكمها تدفّق الذكريات، فالمؤلف لم يحصر نفسه في خطة كتابة، لم يتّكل على برنامج معدّ سلفا، ولم يخضع إلى بروتكول في تسويد الورق، بل خاض بحثه عن «بلاد لا تشبه الأحلام» متحرّرا من الأرشيف، متكلا على صلابة الذاكرة، فمن الأحداث ما يظهر ثم يخبو، قبل أن يعود في وقت لاحق، ومن الأسماء من يظهر ويختفي، في كتابة تربط بين الخرائط والجغرافيات، بين بلاد عربية وأخرى أوروبية، في سيرة تحكي عن هشاشة الإنسان في عالم لم يرأف بالكتّاب، وهي سيرة تكسر أفق توقّع القارئ، وتجعله مستعدا للاحتمالات عندما ينتقل من فصل لآخر. ولكن الشيء الأكيد الذي لا يتخلى عنه بشير البكر في هذه السيرة، هو إصراره على كتابة تعنى بالشعر، وتجعل منه عمادا في مغامرته السردية. في هذه السيرة الرّوائية قد يمتزج الواقع بالمتخيل، لكن اللغة التي كتبت بها واحدة لا تتغيّر.
يتذكّر بشير البكر طفولته، في صحراء وبادية، عندما كان يرافق والده في خرجات برية، أو عندما كان يطارد الذّئاب، لكن الذئاب تحوّلت إلى بشر، ويكتب: «وحين حزمت حقيبتي عن عدّة كتب ودفاتر وقميص وبنطلون، كانت الذئاب ببدلات مرقّطة تنتشر في كلّ مكان. بقيت تلازمني حتى عبرت الحدود». وبعدما كان يطادر الذئاب صارت الذئاب نفسها تطادره، بعدما تحوّلت إلى بشر، تطارده في مناماته. لم يشعر بأمان في البلاد التي ولد وكبر فيها، ووجد صيغة للأمان في الأسفار. ساوره قلق من الاستقرار وعثر على طمأنينة في اللااستقرار. فقد غادر طفولته، وكفّ عن مطاردة الغزلان والأرانب والثعالب، وصار مشغولا بمطاردة الأمكنة.

من بيروت إلى نيقوسيا، ومن باريس إلى لندن، ثم عودة أخرى إلى حواضر عربية، تلاه رجوع إلى ديار أوروبية. هكذا هي الحال التي عاش فيها المؤلف، لا يمكث في مكان إلا ليغادره، لا يمكث في مدينة من أجل تجوال، بل من أجل أن يجعل منها منجم ذكريات. هذه الذكريات تراكمت وأحالته إلى تدوين سيرته في كتاب. مبتدأ هذه السيرة هي سوريا، التي غادرها وهو يرى «خيط الدّم الذي يسيل فوق الخريطة». فقد تنبّأ بالمصير، الذي سوف تصل إليه بلاده، ومع أن سوريا قد شرعت في الخروج من محنتها، فإن الضريبة كانت فادحة، لأن أمثال بشير البكر بالمئات، من شعراء وكتّاب سكنوا المنافي. يبحثون مثله عن بلاد لهم لا تشبه الأحلام، من غير أن يفلحوا في مفارقة بلاد الطفولة. يتحايلون على الحنين بالمضي في الكتابة، وفي توسيع نطاق الحلم. هذه الطفولة التي عاشها المؤلف مثل غيره، طفولة معجونة بوجوه من العائلة ووجه آخرين رافقوه في شغف القراءة، أو في محبة المغامرة، كما إن هذه الطفولة المعجونة بالحكايات والخرافات سوف تسقي مخيلة الكاتب وتجعله يحلم بأفاق أبعد من الحسكة وحلب وبيروت.
«بلاد لا تشبه الأحلام» هي مغامرة في الأمكنة وفي السرد، هي سفر في القصائد وفي المنافي، هي سيرة تجتاز الحدود الجغرافية، مثلما تجتاز اللغة، كتبها المؤلف «بشغف الباحث عن أثر نادر» وهو يرفع رأسه إلى سماء عالية كالأحلام، يعبرها السنونو في كلّ الفصول. فهو كتاب يقترح سيرة بديلة، لا يتقمّص فيها دور الضحية ولا يبكي على أطلال، بل يجعل من الاغتراب تجربة إنسانية، لا يهتم بوصف الأمكنة بقدر الاهتمام بوصف حالات نفسية، تاركا وراءه سرابا مديدا. وتحوّل التشرد إلى كلمات، والكلمات إلى كتاب، نقرأ فيه محنة كتاب سوري في الأزمنة الراهنة، وصعوبة العثور على بلاد تشبه البلاد التي تنمو فيها الأحلام.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد