إعلام على الهواء .. عقل في الإنعاش

mainThumb

15-06-2025 11:11 PM

في بلادنا، لا تحتاج أن تكون عبقريًا لتدرك حجم الفوضى التي تعصف بالمشهد الإعلامي، فقط افتح التلفاز، أو تجرأ على متابعة بعض النشرات والحوارات "الحامية"، وستكتشف أن العقل الجمعي للأمة يُغتال على الهواء مباشرة، وبدم بارد... وبابتسامة مذيع يظن نفسه وصيًّا على الحقيقة، وهو بالكاد يُجيد نطقها.

بكل صدق، وبشيء من الحزن، وربما الكثير من السخرية، نقول إن ما نراه اليوم في واجهات الإعلام لا يمثل إعلامًا، بل حفلات "ردح" مؤسسية، ومهرجانات تضليل مُمنهج، يرتدي فيها الرديء بذلة أنيقة، ويُقدَّم على أنه "صوت الشعب"، وهو في الحقيقة صدى باهت لطبقة فقدت بوصلة الوطن منذ زمن.

نعيش في زمن صعد فيه إلى الشاشات والصدارة أشخاص لا يملكون من الوطنية إلا شعارها، ومن الفكر إلا قشوره، ومن الحنكة إلا ما تُلقنه لهم المداخلات الهاتفية أو الرسائل النصيّة. إنهم عبء حقيقي على الوطن، عبء ثقيل ومكلف، لا يملكون من أدوات الحوار إلا الصوت العالي، ولا من الحجّة إلا شخصنة الخلاف، ولا من الرسالة إلا تلميع من لا يستحق، والطعن في من يوجعهم صدقه.

مَن أوصلنا إلى هذا القاع؟ ببساطة: تقويض ممنهج للمؤسسات الحقيقية التي كانت تصنع النخب — الأحزاب، النقابات، الجامعات، والمجتمع المدني. تم تجريف كل هذه المساحات لصالح "المعيّنين الجاهزين"، أولئك الذين يشبهون بعضهم في كل شيء... عدا حب الوطن.

أمام هذا المشهد، لم يعد الحديث عن إصلاح الإعلام ترفًا نخبويًا أو طموحًا مثاليًا. بل بات مطلبًا وطنيًا لا يحتمل التأجيل. نحن بحاجة إلى ثورة هادئة تعيد للإعلام رسالته، وتطرد منه كل من جعله مرآةً مكسورة، تنكسر معها صورة الوطن كل يوم.

لقد آن الأوان أن نرى على الشاشات والميكروفونات أصحاب الرأي الحر والفكر العميق، لا من باعوا ضمائرهم مقابل دقائق بثّ أو وظيفة موجهة. فالوطن لا يُبنى بالصراخ، ولا بالحقد المغلّف، ولا بتكرار ذات الوجوه التي أكلها التكرار حتى صار ظهورها مصدر قلق وتهكم.

نحن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر بشكل شامل في تركيبة الوجوه الإعلامية التي تتصدر المشهد حاليًا. لا يعقل أن تستمر هذه الأسماء التي فقدت كل مصداقية، واستُهلكت حد السأم، في الإمساك بمقود الخطاب العام، وهي لا تُجيد إلا الإقصاء والتبرير والتذاكي على وعي الناس. إن بقاء هؤلاء في المشهد لا يخدم إلا خصوم الوطن، ويزيد الفجوة بين الدولة والمجتمع.

لا بد من ضخّ وجوه جديدة، أكثر صدقًا واحترامًا وتأثيرًا، تحظى بثقة الشارع، لا تحتقره. وجوه يُمكن أن تُعيد العلاقة الصحية بين المواطن والإعلام، وتستعيد ما تبقى من ثقة ضائعة. فالجمهور ليس غبيًا، وإن صمت، فليس لأنه اقتنع، بل لأنه تعب.

لقد سئم الناس من الفقاعات الإعلامية، والردح المقنّع، والحوارات المعلّبة، والتحليلات المعدّة سلفًا. يريدون أصواتًا تشبههم، لا تُعاديهم. يريدون إعلامًا يحترم عقولهم، لا يُمعن في تجهيلهم. إن تغيير هذه الوجوه لم يعد خيارًا، بل واجبًا وطنيًا وأخلاقيًا.

فلنكن صريحين: نحن لا نحتاج نجوماً من ورق، بل رجال دولة حقيقيين. لا نحتاج إعلامًا مطليًا بالبهرجة، بل إعلامًا يلمع صدقه لا ديكوره.
وختامًا، تذكّروا جيدًا: التاريخ لا يرحم. والتاريخ لا يُدوّن أسماء المتملقين... بل يلعنهم.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد