فلتر ماء يفضح عجز دولة

mainThumb

05-11-2025 09:43 PM

في زمنٍ تُحلّق فيه البشرية إلى المريخ وتبني مدنًا ذكية في قلب الصحراء، ما تزال قرية "البربيطة" في محافظة الطفيلة تبحث عن كوب ماء نظيف. مشهدٌ سورياليّ يختصر مأساة وطنٍ يتحدث عن النهضة والتقدّم، فيما يعجز عن توفير أبسط متطلبات الحياة. كيف لدولة في القرن الحادي والعشرين أن تُهزم أمام "فلتر" مياه لا تتجاوز قيمته عشرة آلاف دينار؟

إنها مأساة لا تُكتب بالحبر بل بالخذلان. البربيطة، القرية المنسية، لم تطلب مستشفىً أو جامعة، ولا طريقاً سريعة أو مدينة ترفيهية، بل ماءً صالحاً للشرب. مجرد ماء. ومع ذلك، ظلّ الرد الرسمي على معاناتها صمتاً مريباً، وتبريراتٍ أوهى من خيوط العنكبوت. لقد كشفت قضية البربيطة هذه الفضيحة التي تمشي على قدمين، لتضع الدولة أمام مرآةٍ تعكس عجزها الأخلاقي قبل عجزها الإداري.

كيف يمكن لحكومةٍ أن تنفق الملايين على المؤتمرات والاحتفالات والديكورات الرسمية، بينما تترك أطفال البربيطة يمدّون أيديهم لا لطلب حقيبة مدرسية بل لجرعة ماء؟ أليس هذا هو قمة العبث؟ ما الذي نفعله إذن بكل تلك الخطط والاستراتيجيات والرؤى إذا كان المواطن ما زال يلهث وراء صهريج ماء كأنه يعيش في قرون الظلام؟

المفارقة المؤلمة أن الحل جاء من خارج الحدود. متبرّع عربي تحرّكه إنسانيته أكثر من أي مسؤول محليّ، حاول تقديم العون وتركيب نظام فلترة بسيط، لكن البيروقراطية الأردنية – كعادتها – خنقت الفكرة بوعدٍ ثم بتجاهلٍ ثم بالنسيان. حتى عندما مدّت شركة الفوسفات يدها لتكفّل الحل، كان المشهد أقرب إلى الفضيحة منه إلى الفخر. كيف لمؤسسة خاصة أن تتدخل لتفعل ما عجزت عنه دولة بأكملها؟

ما يجري في البربيطة ليس حادثة فردية، بل نموذجٌ مصغّر لوطنٍ اختلّت فيه المعايير. تُصرف الأموال بسخاء على قطاعاتٍ لا علاقة لها بالتنمية أو العدالة أو الكرامة الإنسانية، فيما يُترك التعليم والصحة والمياه في آخر الصف. دولة تُبذّر في الكماليات وتبخل في الضروريات، ثم تتساءل ببراءة عن أسباب الغضب الشعبي وانعدام الثقة.

لقد آن الأوان لنعترف: ما يحدث ليس «تقصيراً» بل إهانة وطنية. عندما يعجز النظام الإداري عن تأمين شربة ماء، فهو لا يعجز عن الإدارة فحسب، بل يفقد شرعية أخلاقية قائمة على احترام الإنسان وحقوقه الأساسية. الدولة التي تفشل في حماية كرامة مواطنيها لا يمكنها أن تدّعي التنمية، ولا أن تتحدث عن الإصلاح، لأنها فقدت جوهر وظيفتها الأولى: الإنسان.

المسألة أكبر من قرية عطشى؛ إنها اختبارٌ لضمير أمة بأكملها. من لا يسمع صرخة البربيطة اليوم، سيصحو غداً على عطشٍ أكبر يمتد إلى القيم والمؤسسات والكرامة الوطنية نفسها.

في النهاية، نقولها بوضوحٍ لا يحتمل التأويل: الأوطان لا تُبنى بالاستعراضات ولا بالشعارات المزيّفة، بل بالماء والتعليم والصحة والعدالة.
وحين يعجز الوطن عن توفير الماء، فكل حديثٍ عن التنمية مجرد ثرثرة فوق عطشٍ طويل.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد