كيف نبني دولة ..

mainThumb

03-11-2025 09:56 AM

بعد التجارب المضنية التي خاضتها حركات التحرر مع الاستعمار الغربي، تحقق لكل العاملين على إقامة دولة مستقلة ذات سيادة وتتعامل مع الدول نداً لند، أن بناء دولة في الواقع الدولي الحالي خارجة عن سيطرته، صعب بل مستحيل، لأن من يريد التحرر عليه أن يواجه الدول الكبرى بجيوشها وأجهزتها الأمنية ومخابراتها!! عدا عن الأنظمة التي تدين لها بالولاء، وهذه الأنظمة تقدم مصلحة الدولة المهيمنة على مصلحة شعبها من أجل أن يبقى تحت نير صانعيها، وتبقى هي قائمة.. تستنزف خيرات الشعوب وتستعبدهم، بل تجيشهم لمواجهة أي دولة كبرى تحاول إزالة نفوذها، فيدفعون دماءهم ثمناً لعبوديتهم.. والسودان أكبر مثل يحدث الآن، فالصراع فيها بين قطبين استعماريين يستخدمان القوى السودانية ويحشدون الأنظمة الخاضعة لهم لإخضاع السودان، وحين ينتصر طرف على آخر لن يكون النصر للشعب السوداني بل يكون لأحد أطراف الاستعمار الغربي!!

لذلك لابد لمن يريد التغيير، أن يدخل في النظام الدولي الذي صنعته الدول المهيمنة، بشرط أن يكون مستقلاً فكرياً وهدفه واضح له، ويدخل بطريقة خفية، تخفي أهدافها وتبدأ ببناء دولة ظاهرها السير مع التيار وباطنها بناء قواعد دولة تستطيع المواجهة بعد أن تكون حصنت نفسها من الداخل بالتأييد الشعبي..

هل هذا حصل في التاريخ و يحصل الآن..؟!

نعم.. التجربة الصينية مثلاً..! الصين كانت مستعمرة، وكان الغرب يراقبها ويحاول منع نهوضها، وظلت تخادعه لأكثر من خمسين عاماً، وتبني دولة بعيداً عن أعينه، توهمه أنها لا تسعى لبناء قوة تحصنها من سيطرة الغرب، وهي تسعى تحت جنح الظلام في بناء دولة تحررها من هيمنته، إلى أن فاجأته، بأنها دولة كاملة تستطيع الوقوف في وجه هيمنتهم الاستعمارية.

.. التحرك السياسي يفرضه الواقع، والأساليب والطرق أيضاً تفرضها معطيات الواقع السياسي.. بمعنى أن واقعنا السياسي اليوم مختلف جداً عن واقعنا قبل ألف سنة، فبناء الدول الآن يخضع لمعطيات الواقع السياسي الآن..
مثلاً عندما أسقط العباسيون الحكم الأموي، لم يكن واقعهم السياسي يشبه واقعنا الآن، مع أن العباسيين اخترقوا الدولة الأموية من داخلها، ولم يقفوا خارجها وينتظروا إسقاطها، والدولة الأموية لم يكن لها راع خارجي من الدول الكبرى، فهي دولة مستقلة ومهيمنة..

ولا يقول أحد أن الدولة الأموية كانت إسلامية، والعباسيون مسلمون، وهذا يبيح لهم التسلل الى داخلها والسيطرة على الحكم، وواقعنا الدولي الآن يختلف!! أياً كانت عقيدة الدولة، فالعامل للتغيير يقوم بعمل سياسي، خاضع للمعطيات والأساليب السياسية لاستلام الحكم، وعندما ينجح التحرك السياسي في السيطرة يفصح عن دولته وأهدافها ورؤيتها..

في زمننا الحاضر تغير الموقف الدولي، والدول الاستعمارية تقوم على تحالفات، وهنا لا بد للعاملين من وجود "دولة" ينخرطون فيها، بغض النظر عن توجهاتها، فقط الشعب وما يحمل من عقيدة هو الأساس، فإذا تحقق لهم السيطرة المبدئية، يتكئون على دول غير استعمارية تساعدهم في النهوض بدولتهم والتخلص من الهيمنة، ثم بعد ذلك تكشف أوراقها معتمدة على قوتها وعلى شعبها الذي يؤمن بقدراتها، لأن من لا يملك دولة، ليس له مكان بين الدول.. وسيظل يشاغب من خلف الأسوار الدولية!!

التجربة التركية توضح ما سبق.. بغض النظر عن رأي الكثير في حزب اردوغان، إلا أنه استطاع بعد جولات كثيرة منذ زمن أربكان وتعثره المستمر إلى اردوغان الذي فهم اللعبة الدولية، واستطاع أن يضع الدولة التركية على سكة التقدم، من خلال السياسة المتخفية والتسلل في دهاليز السياسة الدولية، التي لا تسمح لتوجهه من إنشاء دولة كاملة ..
ما الذي فعلته الأحزاب التركية لتصل الى هذه المرحلة؟ أنها كافحت من خلال الدولة العلمانية حتى سيطرت عليها، بتحالف مع أميركا لا حباً بها ولا لتبديل السيد الاستعماري ولكن للاتكاء عليها في التخلص من الهيمنة الغربية "فرنسا وبريطانيا" التي كانت تسيطر على تركيا من خلال العسكر، وبدأت الدولة المتخفية في ثياب العلمانية تجني ثمرات الصبر والمشي بين الأفاعي، وتحصد الكثير من المكاسب، أولها بناء دولة ذات مؤسسات قابلة للحياة والنمو ومقنعة للشعب اقتصادياً وأخضت العسكر للدولة، حتى تصل في وقت قريب إلى خلع ثياب التخفي والاعلان عن توجهها، كما فعلت الصين من قبلها، ومن المكاسب التي حصدتها الدولة التركية بقيادة حكومة التخفي، انتشال سوريا من مستنقع الفشل والضياع، وإن كان بعض المحللين الذين يعيشون اللحظة يرون غير ذلك، لأنهم يرون ما يظهر على السطح ولم يتعمقوا!!، ثم المكسب الأكبر لاتكاء حكومة أردوغان على أميركا أنها حمت المقاومة في غزة، وحافظت على مشروع المقاومة الذي سيحقق أهدافه في وقت قريب، وحقنت دماء الفلسطينيين، ودماء السودانيين، وهذه مرحلة مهمة، لها ما بعدها، إذا تشكل نظام دولي جديد متعدد الاقطاب.

إذا كان التعاون مع المستعمر "المضاد" فيه مصلحة مرحلية لمجموع الناس، فعلى السياسي المدرك للصراع الدولي، أن يستغل أي ثغرة فيه ليحصل على مكاسب سياسية تمكنه من مواصلة البناء، حتى يصل الى الاستقلال الكامل، لا أن يقف خارجه، ويصفه بالعدو دون أن يخطو خطوة واحدة تجعله يبدأ بمشروع التحرر والبناء وتخقيق أهدافه التي يسعى لتنفيذها، وإن لم يفعل سيبقى خارج المنظومة الدولية..



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد