صَيْف زمان وحَرّ اليوم

mainThumb

11-08-2025 07:57 PM

في زمنٍ مضى، كان الصيف صديقًا صبورًا، يرافقنا بنسيمه وظله، فنحتمي منه بوسائل بسيطة ونبادله ابتسامة رضا. اليوم، تغيّرت المعادلة؛ صار الحَرّ خصمًا عنيدًا يختبر قدرتنا على التحمل وسط عالم مسرع لا يرحم. بين صيف الأمس وصيف اليوم مسافة من الحنين، حيث كان الأول مدرسة في الصبر والبساطة، أما الثاني فامتحان في الصراع مع التقنية والمصاريف.
تمر منطقتنا اليوم بظروف مناخية قاسية وموجة حرّ شديد تزيد من صعوبة الحياة وتنعكس على الناس والأرض، فتضاعف الشعور بالقلق والخوف. لم يعد الصيف كما كان؛ في الماضي كان يمر بهدوء مع نسيم الظل وجلسات السمر، أما اليوم فقد تحوّل إلى معركة يومية مرتبطة بفواتير الكهرباء وأعطال الأجهزة.
لم يكن الحَرّ في الماضي حالة طارئة تعلنها نشرات الأخبار بخطوط حمراء، بل كان مقيمًا معنا طول الموسم. ومع ذلك، كنا نتحايل عليه بوسائل بدائية لكنها عبقرية: التمدد في بيوت طينية سميكة الجدران، الاتكاء على مخدات الصوف في بيت الشعر، الجلوس في حوش الدار تحت المعرش، أو النوم على السطح بينما نسيم الفجر يوزع برودته مجانًا بلا فاتورة ولا أعطال. كنا نواجه الشمس بجبين عالٍ وابتسامة ساخرة، وكأننا نقول لها: "تستطيعين إحراقنا… لكننا لن ندفع فاتورة تبريدك."
الماء كان له طقوسه الخاصة؛ "القِربة المعلقة" التي يبرّدها النسيم، و"الجرة" و"الزير" اللذان يرويان عطشنا بماء فيه رائحة الطين وذاكرة المطر، ودلو البئر الذي نرفعه بحبل من الليف ونشرب مباشرة من الكوز المعدني، فنشعر أن الماء ينعش العظام قبل الحلق.
وأذكر حين اشترى والدي مروحة "سوني" ستاند مزوّدة براديو وساعة منبّه، شعرنا يومها أننا بلغنا قمة الرفاهية. كان صوتها وهي تدور أشبه بموسيقى هادئة، حتى لو كان هواؤها دافئًا قليلًا.
أما الآن، ففي كل منزل مروحة للبسطاء، ومكيّف للقادرين، وتكييف مركزي للطبقة المترفة. لم يعد الصيف اختبارًا للصبر، بل منافسة على من يدفع الفاتورة الأعلى وأسرع في إصلاح الأعطال.
لقد تغيّر كل شيء إلا الشمس نفسها؛ فهي تشرق كل صباح ببراءة مزيفة، وكأنها لم تكن بالأمس تحرق رؤوسنا. ومع كل وسائل التبريد الحديثة، سنظل نشتاق إلى صيفٍ كنا نعرفه وجهًا لوجه، ونخرج منه بسلام وذكريات لا تُشترى.
في الماضي، كان الصيف يقوّي المناعة… واليوم، يرفع ضغطنا مع أول فاتورة كهرباء. الفرق أننا كنا نحتمي من الحَرّ بالظلّ والنسيم، أما الآن فنحتمي منه بالدعاء ألا ينقطع التيار أو يتعطل جهاز، خاصة لمن يحسبون حساب كل رغيف خبز وعدد تكات عدادات الماء والكهرباء.
ورغم كل التغيرات، يبقى شوقنا لصيفٍ بسيط وصادق، نحيا فيه اللحظة ونصنع الذكريات بأقل الإمكانات. قد تكون التكنولوجيا سهّلت حياتنا، لكنها لم تعد لنا تلك البراءة التي جمعتنا مع الشمس والهواء. صدقوني، لو كان مخترع المكيّف حيًا، لدعوته إلى أكلة رشوف، يحليها بالزيقيات، في نفس المكان… لكن باختلاف الزمان، هناك على بيادر طبلوج.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد