حين سقط المستشفى… نهضت الوصية

mainThumb

28-08-2025 12:30 AM

في قلب النهار، حين تكون الشمس شاهدة على كل شيء، دوى الانفجار الكبير. لم يكن مجرد صاروخ يخترق سقف بناء، كان صرخة في وجه الإنسانية كلها. «مجمع ناصر الطبي»، آخر ما تبقى للناس من أوكسجين وأمل وجرعة دواء، تحول في لحظة إلى ركام يعلوه الغبار ويمتزج فيه صراخ الجرحى مع شهقات الناجين.
داخل الممرات، التي كانت تفوح برائحة المطهرات، انبعثت فجأة رائحة الدم. أطباء كانوا يحلمون فقط أن ينقذوا مريضاً من نزيف أو طفلاً من التهاب، وجدوا أنفسهم جثثاً ممددة، وأقلام الصحافيين التي جاءت لتكتب الحقيقة انكسرت تحت الركام. في ثوان قليلة، انطفأت أربعة أصوات صحافية حملت الكاميرا لتوثق، فإذا بها تتحول إلى شهود أحياء في ذاكرة الأرض.
مريم أبو دقة، محمد سلامة، حسام المصري، ومعاذ أبو طه، أسماء صارت اليوم جزءاً من تراب غزة.
مدير المستشفى وقف يبكي أمام الكاميرات، رجل لم يعد قادراً أن يخفي انكساره. لم يكن يتحدث بصفته مسؤولاً، بل بصفته أباً فقد أبناءه. قال بصوت مرتجف: استهدفونا في قلب المكان الذي يفترض أن يكون آمناً، استهدفونا في الطابق الذي يعلو كل أحلامنا الصغيرة، لم يتركوا لنا شيئاً.
في الخارج كان الناس يركضون حاملين الجرحى، رجال الدفاع المدني، بملابسهم المغبّرة، حاولوا أن يرفعوا الركام عن أشلاء الأطباء والصحافيين. أصوات متقطعة تتردّد: «الله أكبر.. الحقونا»، لكنها تذوب في ضجيج الدمار.
الصحافيون الأجانب أصدروا بياناً يدين الاستهداف، قالوا إن المكان كان معروفاً، وإن التحذيرات تكررت مراراً. كلماتهم بدت وكأنها تائهة وسط بحر من الصمت الدولي، صمت أثقل من الركام نفسه. إنهم يعرفون أن زملاءهم الفلسطينيين يقتلون واحداً تلو الآخر، وأن الكاميرات التي تفضح الجريمة تتحوّل دائماً إلى أهداف.
في المساء، بعد أن خفت الغبار قليلاً، وقف أحد المراسلين أمام الكاميرا وهو يرتجف. قال بمرارة: منذ دقائق فقط كنا نعمل معاً، ثم فجأة صرنا نحمل جثثهم. لم يجد لغة يصف بها المشهد إلا سؤال واحد ظلّ يتردد كطعنة: من سيكون في مأمن؟
في غزة، لم يعد شيء في مأمن. البيوت، المدارس، المستشفيات، وحتى المقابر التي تتهدم فوق جثث موتاها. ومع ذلك يصر الناس أن يبقوا، أن يرفعوا أصواتهم عالياً وسط الركام.
إنها ليست مجرد مجزرة في مكان طبي. إنها طعنة في قلب المعنى الإنساني كله. حين يسقط مستشفى، يسقط العالم كله معه.
ومع ذلك، تبقى الحكاية معلّقة بين سماء تتساقط منها الصواريخ وأرض ترفض أن تستسلم. تبقى الأسماء محفورة في وجداننا. مريم التي أوصت ابنها بالصلاة والحب، ومحمد الذي لم يكمل تقريره، وحسام الذي كان يجهز كاميرته لبثّ مباشر، ومعاذ الذي حمل آخر الصور في ذاكرته. كلهم صاروا الآن رواة، رواة بصمتهم الأبدي، شهوداً لا يمحى حضورهم.
في النهاية، لم يكن السؤال: كم عدد الشهداء؟ كان السؤال الأعمق: كيف يستطيع الإنسان أن يواصل العيش بعد أن يرى بأم عينيه المستشفى يقصف والصحافي يقتل والطبيب يدفن تحت مكان كان يعالج فيه الناس؟ كيف يمكن أن يظل العالم ساكناً أمام جريمة بهذا الحجم؟
غزة تجيب بطريقتها الخاصة، بالدمع حيناً، وبالصمود حيناً آخر، وبالكلمة التي لا تموت مهما اشتدّ القصف. وغزة تعرف أن الصحافي الذي رحل سيظل صوتاً في قلبها، وأن المستشفى الذي انهار سيعود رمزاً للحياة من جديد. فالركام ليس نهاية القصة، الركام بداية أخرى يكتبها الناجون بدموعهم، ويرفعها الشهداء بدمهم.
غيث: وصيّة على حافة الغياب
لم تكن وصيّة عادية، كانت صلاة مكتوبة بدمع الأم ودمها معاً. جلست الصحافية مريم أبو دقة، التي اعتادت أن تواجه الغياب بالكاميرا، تكتب ما يشبه العهد لابنها الصغير، عهد يضيء له الطريق في زمن يبتلع كل ما حوله. كتبت له ألا يبكي عليها كي تبقى مطمئنة، وألا يسمح للحزن أن يسرق منه طفولته، وألا ينسى أنّه ظلّها الممتد بعد رحيلها، ووردتها التي لن تذبل مهما اشتدّت النيران.
الموت في غزة ليس موتاً عادياً. كل شهيد يولد من جديد في ذاكرة الأرض، في الأغاني، في الصور المعلّقة على الجدران، في دفاتر المدرسة التي يخبئها طفل، في وصيّة تكتب على عجل. مريم حين كتبت لم تكن تترك كلمات وحسب، كانت تترك غيثاً مغموساً بالحب كي يظلّ واقفاً وسط العاصفة. أرادت له أن يكبر ويصبح رجلاً شجاعاً، وأرادت لضحكته أن تبقى أعلى من صوت الطائرات، وأرادت أن تهديه ما لا تستطيع الغارات سرقته.. الأمل.
قالت له إن يكبر ويتزوج وينجب بنتاً ويسميها مريم على اسمها، وكأنها كانت تؤمن أن الاسم امتداد للحياة، وأنّ الدم حين يكتب على الأرض، يمكن أن ينهض من جديد في طفل يولد ويضحك ويحمل الحلم في عينيه. لم تطلب منه المستحيل، لم توصه بأن يغيّر العالم، أو أن يحمل ما يفوق طاقته، طلبت فقط أن يعيش، أن يحب، أن يمنح للحياة فرصة رغم كل شيء، أن يظل مبسوطاً ومرتاحاً كما كتبت له، أن يحيا كأنه ينتصر لها في كل ابتسامة.
هي تعرف أن وصيتها صعبة. كيف لطفل أن يكون مبسوطاً ومرتاحاً في زمن يقتل فيه كل شيء جميل؟ لكن الأم تدرك أن الحزن إذا استوطن قلب ابنها سيقتله مرّة ثانية. لذلك كتبت لتخلصه من ثقل الغياب، لتضع في قلبه بوصلة تقوده نحو النور مهما تكسرت الطرق. تركت له وصية تحمله من طفولته إلى رجولته، ومن وحدته إلى اسمها الذي أرادت أن يولد من جديد.
صورة غيث وهو بين ذراعيها قبل رحيلها تحولت إلى أيقونة، ابتسامة عريضة تحاول أن تغطي على نبوءة الموت، حضن يعرف أنّه الأخير فشدته بقوة، كأنها تلملم كل ما تبقى من أيامها في ذلك العناق. هذه الصورة ستبقى أقوى من ألف بيان، وستعيش أكثر من الجدران التي تتهاوى، لأن في تفاصيلها تختبئ الحكاية كاملة، حكاية أمّ تحتضن ابنها لتخبئه من العالم، وابن يبتسم كأنه لا يعرف أن الدنيا تستعد لتسلبه قلبه.
الصحافيون في فلسطين يعرفون أن كل صورة قد تكون الأخيرة. يحملون الكاميرا كما يحمل المقاتل سلاحه، يخرجون إلى الشوارع التي يملؤها الركام، يوثقون الحياة قبل أن تبتلعها الحرب. مريم كانت واحدة منهم، عرفت أن الكاميرا قادرة على أن تكون مرآة للألم، وعرفت أن الصورة لن توقف القصف لكنها ستفضحه، ومع ذلك خرجت كل يوم كأنها تسير نحو قدرها بابتسامة.
استشهادها لم يكن موتاً فقط، كان ولادة لرمز جديد. وصيتها خرجت من بين الركام لتصل إلى العالم. لم تعد تخص غيث وحده، صارت تخص كل أم فلسطينية، كل طفل ينتظر أمه فلا تعود، كل إنسان يبحث عن معنى البقاء وسط هذا الخراب. كل من قرأها شعر أن الكلمات موجهة له أيضاً، لا تبكوا عليّ، عيشوا، ابتسموا، ارفعوا رؤوسكم.
الأمومة هنا تجاوزت الجسد. لقد وضعت في قلبه حبلاً سرّياً يربطه بالحياة، حبلاً من كلمات مكتوبة في زمن النار. هذا ما يجعلها باقية أكثر من الدبابات، وأكثر من حدود القوة. فحين يقرأ غيث وصيتها كلما كبر، سيشعر أن يدها ما زالت فوق رأسه، وأن صوتها يخرج من بين الحروف ليهدهده، كما في طفولته.
ربما سيأتي اليوم الذي ينجب فيه غيث طفلة ويمنحها اسم مريم. حينها ستعود الأم إلى الحياة مجسدة في ملامح صغيرة، في ضحكة، في عيون، في حضور يملأ البيت. هكذا تتحقق دورتها، فيتحول الموت إلى ولادة، والغياب يتحوّل إلى حضور، أما الاسم فيصبح جسراً بين جيلين.
من يقرأ كلماتها اليوم يدرك أن الموت لم يغلبها. كتبت نفسها في المستقبل قبل أن يغيبها الحاضر. كتبت لتبقى، ولتترك للعالم وثيقة حب أقوى من كل شيء. وحين يولد ذلك الطفل الصغير الذي سيحمل اسمها يوماً ما، ستفهم الأرض أن الدم لا يمحى، وأن الشهداء يواصلون العيش فينا، وأن الكلمات قادرة على أن تبني بيوتاً فوق الخراب.
مريم غابت جسداً، لكنها صارت حكاية، رمزاً، وصارت أماً لكل أبناء فلسطين. وصيتها ليست مجرد كلمات، إنها إرث أبدي من حبّ وحياة وأمل. وكلنا اليوم، حين نقرأها، نصبح غيثاً آخر يحمل الوعد: أن نعيش، أن نصلي، أن نرفع رؤوسنا، وأن نحب رغم كل شيء.

كاتبة لبنانية



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد