اليسار الغربي ودولة الاحتلال

mainThumb

05-09-2025 11:01 AM

أشارت تقارير متقاطعة إلى أنّ جمهور مهرجان فينيسيا السينمائي وقف يصفق بحرارة متواصلة دامت 22 إلى 24 دقيقة، تبعاً لتقرير أو لآخر، وسط هتافات «تحيا فلسطين!»، تحية للفيلم التسجيلي «صوت هند رجب»، الذي أخرجته التونسية كوثر بن هنية؛ ويستعيد استشهاد الطفلة الفلسطينية ابنة الخمس سنوات برصاص الجيش الإسرائيلي، أواخر كانون الثاني (يناير) 2024، وتعمّد الاحتلال قصف سيارة الإسعاف التي توجهت لإنقاذها.
تلك برهة، في علاقة الجمهور الثقافي (الإيطالي أوّلاً، ثمّ الأوروبي، والعالمي استطراداً) بجرائم الحرب الإسرائيلية، فارقة ونوعية، وربما متأخرة كما قد يساجل البعض محقاً؛ جديرة بأن توضع، أسوة بشتى أنساق الحراك والتضامن الجامعية والشبابية والشعبية في الغرب خصوصاً والعالم بأسره عموماً، في موازاة ما تمتع به الكيان الصهيوني، وحظيت به الصهيونية، من أنساق التعاطف والتأييد والمساندة من شرائح جماهير ثقافية متعددة الجنسيات والمشارب والتيارات، والأجنحة اليسارية منها على وجه الخصوص. صحيح أنّ سلسلة أبعاد سياسية وأخلاقية وإنسانية تراكمت وتكاملت وباتت تطبع مظاهر التحوّل في الرأي العام المناهض لحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة، وليس أقلّ صحة أنّ قسطاً غير قليل من مشاعر الاشمئزاز العامّ صارت تكتنف النظرة إلى المشروع الصهيوني في فلسطين المحتلة، وإلى الصهيونية فكراً وفلسفة بالتالي.
وبهذا المعنى فإنّ واقعة التصفيق يمكن أن تتوازى مع خلاصات عديدة لامعة توصل إليها النرويجي أسموند بيرغن ياريخ، الباحث في الأركيولوجيا والتاريخ والدراسات الثقافية والدين في جامعة بيرغن، الذي وقّع كتاباً بعنوان «معنى إسرائيل: العداء للصهيونية والفيلو ـ صهيونية لدى يسار ما بعد الحرب»، صدر مؤخراً بالإنكليزية ضمن منشورات روتلدج في نيويورك. ورغم أنّ فصول الكتاب تتركز على تحولات اليسار النرويجي، والسكندنافي عملياً وعلى نطاق أوسع، فإنّ خلاصاته تتخذ في أوجه عديدة صفة مرايا تمثيلية عالية الصدق، تعكس تقلبات أكثر من يسار واحد أوروبي، وغربي إجمالاً.
وقد يلوح، للوهلة الأولى وقبل قراءة الكتاب أو حتى تصفّح الفهرس، أنّ الجديد في هذا الحقل الدراسي سوف يكون محدوداً أو ضئيلاً، بالنظر إلى كثرة الدراسات حوله، واتفاقها بصفة عامة على أنّ عوامل مختلفة محلية أو مناطقية حكمت النظرة إلى المشروع الصهيوني ودولة الاحتلال (كما في الحال الشهيرة لعقدة الهولوكوست لدى الألمان، شعباً وحكومات). لكنّ جديد ياريخ، الحاسم وربما المفاجئ في اعتبارات كثيرة، هو أنّ مواقف العديد من تيارات ذلك اليسار الغربي نهضت، خلال خمسينيات القرن المنصرم، على هواجس الحضارة الغربية؛ والديمقراطيون الاشتراكيون في النروج، وأوروبا والغرب استطراداً، استخدموا الأفكار الخاصة بالصهيونية ودولة الاحتلال على سبيل «تهدئة قلقهم حيال مستقبل الحضارة ولإعادة تأكيد قابلية هذا المفهوم للحياة». في المقابل، كانت تيارات «اليسار الجديد»، المناهضة للصهيونية خلال الستينيات خصوصاً، قد انطلقت إجمالاً من رفض أعرض لأفكار تلك الحضارة، واعتبار المشروع الصهيوني جسراً متقدماً للإمبريالية العالمية.

ثمة في الكتاب موضوع بالغ الحساسية، والأهمية، يُطرح ضمن مقاربات تضمينية بسبب تعقيداته المعرفية والفكرية والسياسية أغلب الظنّ، ويتناول جانبَيْن من الخطاب حول الحضارة سبق أن عُولجا بطرائق منفصلة ثمّ دُمجا بصدد تمثيل دولة الاحتلال: الحضارة بوصفها ضرورة للمجتمع الصالح، والمرادفة للديمقراطية تقريباً، لكنها أقلّ ملموسية ومؤسساتية، وأكثر اشتمالاً؛ وثانياً، بوصفها مسوّغاً إيديولوجياً للاستعمار الأوروبي. ومن واقع إقدام مفكرين كثر على تفسير النازية كمنتَج للحضارة (فلهلم رايش، تيودور أدورنو، ماكس هوركهايمر) وتأويل الهولوكوست كهجمة نازية ضدّ الحضارة (إيهودا باور وإريك هوبسباوم)؛ يساجل الكتاب بأنّ ذلك الاندماج، خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جعل «فكرة إسرائيل» قضية حاسمة لدى اليسار.
ومن هنا انبثاق نوازع تأييد الصهيونية، ثمّ «محبّة الصهيونية» Philo-Zionism، لأسباب متنوعة يظلّ أبرزها حسّ التعاطف مع اليهود، الذي توسّع لاحقاً ليشمل دولة الاحتلال، إزاء ويلات الهولوكوست وجرائم الحقبة النازية في آن معاً؛ الأمر الذي لم يمنع تيارات أخرى في قلب اليسار، أو «اليسار الجديد» تحديداً، من تطوير قراءة أخرى ترى أنّ حصر الصهيونية ودولة الاحتلال داخل إطار الهولوكوست يحرف النظرة إلى العاقبة الأهمّ خلف تأسيس دولة يهودية، أي اقتلاع الشعب الفلسطيني، وهذا اتجاه يتجاوز التضامن مع حقوق الشعب الفلسطيني ويصبّ بالتالي في عمق مسائل الاستعمار والإمبريالية. والكتاب، في هذا السياق تحديداً، لا يعفّ عن التذكير بأنّ النموذج النروجي للتعاطف الثلاثي، مع اليهود والصهيونية والدولة اليهودية، لم يردع شرائح واسعة من الاشتراكيين الديمقراطيين عن السقوط في حمأة أفكار استشراقية وعنصرية عن العرب.
والفصل الرابع من الكتاب يناقش الفارق بين مساندة الصهيونية و«محبّة الصهيونية»، التيارات التي تنامت اعتباراً من سنة 1949 مع مؤتمر «حزب العمال» النروجي؛ في أنّ النزعة الثانية تقصدت إنشاء رابطة بين اليهود والحضارة، فأسبغت على دولة الاحتلال صفات مثالية ليس لجهة احتضان يهود العالم فقط، بل كذلك كتمثيل للحضارة أفضل وأرقى وأطهر. وفي النموذج النروجي، وإذْ انتهجوا ترقية دولة الاحتلال إلى مصافّ مثالية تخدم حاجاتهم الإيديولوجية، فإنّ الاشتراكيين الديمقراطيين ظلوا في حال من عدم الارتياح إزاء مقولات الفارق والهوية بصدد اليهود؛ وتلك خلاصة تنطبق، في كثير وليس في قليل، على تيارات اشتراكية ديمقراطية عديدة في الغرب.
الفصل الخامس يستكمل أنماط هيمنة «محبّة الصهيونية» في ميادين دولية ومحطات نوعية مثل حرب السويس 1956، فيدحض الرأي القائل بأنّ استجابات الاشتراكيين الديمقراطيين في النروج للحرب الفرنسية/ البريطانية/ الإسرائيلية ضدّ مصر حكمتها تأثيرات إسرائيلية. على النقيض، يساجل ياريخ بأنها كانت تحصيل حاصل لحال ترقية دولة الاحتلال إلى مصافّ مثالية، وتغذية القناعات الإيديولوجية المركزية الشائعة في صفوف ذلك اليسار النروجي حول ارتباط وثيق بين تهديد الحضارة الغربية واستهداف المشروع الصهيوني. أكثر من هذا، يرصد الفصل كتابات الاشتراكيين الديمقراطيين في النروج حول محاكمة إيخمان 1961، وكيف أنها ظلت تؤكد جاذبية الصهيونية من زاوية أنّ الإبادة النازية ضدّ اليهود إنما تستهدف حضارة الغرب أوّلاً.
وكي لا يقع القارئ في خطأ اليقين بأنّ اليسار الأوروبي كان بمنأى عن هذه الانزلاقات النروجية، يخصص ياريخ الفصل التاسع والأخير لإجراء مقارنات مع بريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة؛ حيث توزّعت نزعة «محبّة الصهيونية» في تيارات شتى متباينة الطرائق والذرائع والمستويات، وظلت في العمق تلتقي عند الفكرة الحاسمة المشتركة: أنّ مساندة الصهيونية شكل من أشكال الحفاظ على الحضارة الغربية، وأنّ العداء للصهيونية هو تهديد لتلك الحضارة، ودولة الاحتلال جزء لا يتجزأ من هذه المعادلة في شقّيها.
وخلطة «حزب العمال» البريطاني، التي جمعت بين السياسة التقدمية وتمجيد الاستعمار والاستشراق، تكررت في صيغة أو أخرى لدى الغالبية الساحقة من الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، في أوروبا والولايات المتحدة. وفي السطور الأخيرة من كتابه يقتبس ياريخ أحد ممثلي اليسار الليبرالي الأمريكي، فرانك بكستون رئيس تحرير صحيفة «بوسطن هيرالد»، الذي ذهب في الترقية المثالية لدولة الاحتلال إلى درجة مقارنة المستوطنين الإسرائيليين في الكيبوتزات، الذين مدّنوا فلسطين والفلسطينيين و«زرعوا في قلب الصخور»؛ بـ«الروّاد» الأمريكيين، الذين نقلوا الهنود الحمر في أمريكا من الهمجية إلى الحضارة.
ولأنّ أحفاد أولئك الكيبوتزيين «الروّاد» هم اليوم قتلة الطفلة الفلسطينية هند رجب، فإنّ ردّ فعل مشاهدي شريط كوثر بن هنية، في مهرجان فينيسيا السينمائي، باتوا على الجانب الأقصى الأبعد عن أية «حضارة»، يحميها أيّ طراز من الـ«فيلو ـ صهيونية».

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد