الوجه الآخر للعالم الرقمي، عالم مُضلل

mainThumb

14-09-2025 03:39 PM

لم يعد العالم الرقمي مجرد أداة للاتصال أو مساحة للترفيه، بل أصبح بمثابة بنية تحتية فكرية تشكل طريقة إدراكنا للأحداث وتوجه خياراتنا اليومية. منصات التواصل الاجتماعي اليوم ليست مجرد وسائط لنقل الكلام، بل مختبرات ضخمة تُعاد فيها صياغة الحقيقة وتُوجَّه فيها أنماط السلوك الفردي والجماعي. وبقدر ما تفتح هذه المنصات أبوابًا واسعة أمام الإبداع والتفاعل، فإنها في الوقت ذاته تزرع تحديات معقدة تتعلق بالثقة والمصداقية والوعي.

من أبرز التحديات التي يواجهها المستخدم هو التضليل المنهجي الذي ينتشر عبر هذه المنصات بسرعة مذهلة. الأخبار المفبركة، الصور المعدّلة، والمقاطع المقتطعة من سياقها تتحول إلى "حقائق" يتداولها الناس دون تمحيص. وحين يُبنى الرأي العام على معطيات مغلوطة، فإن القرارات الجماعية قد تتأثر في قضايا حساسة مثل الانتخابات، الصحة، أو حتى النزاعات الدولية.

ولا يتوقف الأمر عند الأكاذيب الصريحة، فهناك أشكال مُبطنة أكثر للتضليل، مثل تقديم المعلومة بنصفها أو ترتيبها بطريقة توحي بمعنى مختلف. هذه الممارسات تجعل المستخدم أمام صورة مشوهة للواقع، يصعب من خلالها التمييز بين الحقيقة والتلاعب.

إلى جانب ذلك، تُعيد الخوارزميات صياغة تجربتنا اليومية بشكل غير مرئي. فهي تحدد لنا ما نقرأه وما نتجاهله، وتبني حولنا عالماً مصغراً يعكس قناعاتنا وأهواءنا. هذا التخصيص المفرط قد يبدو مريحاً في البداية، لكنه على المدى الطويل يقلل من التنوع الفكري ويغلق أبواب الحوار مع المختلف.

الأثر النفسي لهذه البيئة لا يقل خطورة. فالمستخدم يجد نفسه وسط منافسة صامتة لإظهار صورة مثالية عن الذات. ضغط أزرار الإعجابات والتفاعلات يعزز شعوراً مستمراً بأن القيمة الشخصية تقاس بما يُعرض على الشاشة. ومع ازدياد هذا الضغط، تتصاعد حالات القلق والاكتئاب وفقدان الثقة بالنفس، خصوصاً بين الأجيال الشابة.

ولا يمكن إغفال الدور التجاري الذي يغلف هذه الظاهرة. المؤثرون وصنّاع المحتوى غالباً ما يقدّمون أنماط حياة أو منتجات تحت ستار التجربة الشخصية، بينما هي في حقيقتها إعلانات مدفوعة. هذا التلاعب غير المعلن يعمّق الفجوة بين ما يراه الجمهور وما هو واقعي أو قابل للتحقق.

ورغم هذه الجوانب المظلمة، يظل الجانب المشرق قائماً: إمكانية الوصول إلى المعرفة، بناء المجتمعات الافتراضية، وتبادل الخبرات عبر الحدود. لكن الاستفادة من هذه الفرص تتطلب وعياً نقدياً صارماً، وقدرة على فرز الغث من السمين.

باختصار، العالم الرقمي ليس بريئاً كما يبدو، بل ساحة معقدة تتقاطع فيها المصالح، الأفكار، والأوهام. والنجاة من تضليله لا يتحقق إلا بالبحث عن مصادر متنوعة، ممارسة التفكير النقدي، وتذكّر أن ما يُعرض أمامنا ليس بالضرورة مرآة صادقة للواقع.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد