أفران أوشفتز وأعشاب غزّة

mainThumb

28-09-2025 12:59 PM

في عداد إصدارات متحف الهولوكوست التذكاري في واشنطن، يعثر المرء على عناوين كهذه: «مصادرة أملاك اليهود خلال الهولوكوست، 1933 ـ 1945»، «المحرقة في أوكرانيا: التاريخ، الشهادة، الاستذكار»، «قسّيسو هتلر: رجال الدين الكاثوليك والإشتراكية القومية»، «بين المقاومة والاستشهاد: شهود يهوة خلال عهد الرايخ الثالث»… وغنيّ عن القول إنّ هذه الأعمال تعتمد منهجاً إنتقائياً مفرطاً في عزل بعض الوقائع عن سياقاتها بحيث تأخذ بعداً أحادياً يضخّم معاناة اليهود، الأمر الذي يقترن أيضاً بإهمال ـ أو حتى تشويه، وطمس، وطيّ ـ الوقائع الأخرى التي تصف معاناة الآخرين.
لا بأس، ولعله الخيار الأوحد أو يكاد كلما اتصل الأمر بعذابات يهود أوروبا خلال الحقبة النازية؛ ولكن: هل ثمة وقفة، حتى بمستوى الإشارات غائمة المعنى والتلميحات غامضة الدلالة، حول عذابات أهل فلسطين، على أيدي ضحايا النازية من اليهود الإسرائيليين، أو أبنائهم وأحفادهم؟ كلا، بالطبع، حتى حين يقتضي الاشتراطُ التوراتي ذاته مقدارَ الحدّ الأدنى من التنويه؛ أو حين يأكل الغزيون أعشاب الأرض، أو ما تبقى منها بفعل الإحراق الإسرائيلي المنهجي العميم، أو… لا يأكلون نهائياً ويقضون جوعاً؟
فعلى الموقع الرسمي للمتحف، كان إيلي فيزل ـ القيّم على تراث الهولوكوست، وحامل جائزة نوبل للسلام ـ قد اختار تثبيت التعليق على مأساة أهل دارفور، هكذا: «في التوراة نجد الوصية التالية: لا تقف ساكنًا أمام سفك دم أخيك الإنسان». والنصّ يقصد أخيك الإنسان أياً كان مقام عذابه، سواء أكان يهودياً أم غير يهودي، في دارفور كما في فلسطين، لأنّ «البشر أجمعين لهم الحقّ في حياة كريمة يحدوها الأمل بلا خوف أو ألم»، يكمل فيزل!
هذه، ضمن معدّلات تزيد أو تنقص، هي حال الساسة الإسرائيليين، في صفوف «اليمين» و»اليسار» و»الوسط»، وحال غلاة أنصار دولة الاحتلال أينما تواجدوا؛ إزاء تصاعد موجة الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، عاصمتها القدس الشرقية، ضمن أطار حلّ الدولتين الذي يأتي ولا يأتي. وليس من عجب في أنها حال مشابهة، إذا لم تكن مطابقة، لمواقف الفئات ذاتها حيال العلاقة بين الهولوكوست والأرشيف التاريخي، و/ أو استخدام العداء للسامية كإوالية تأثيم رهيبة ضدّ كل من تسوّل له نفسه مراجعة التاريخ، أو التدقيق في الأرشيف، حتى صارت مفردة «مراجعة» سبّة في حدّ ذاتها، وممارسة رجيمة، وسلوكاً مناهضاً لليهود.
وبالطبع، ليس المرء في حاجة إلى عناء شديد كي يتخيّل استثناء هذه القاعدة، الوحيد في الواقع: مراجعة التاريخ بما يفيد تدعيم الرواية اليهودية الرسمية عن الهولوكوست، تحديداً وحصرياً، وضدّ كلّ وأيّ رواية أخرى. ولا حرج، بل أقصى التفاخر والعنجهية والغطرسة، أن يعتلي منبر الأمم المتحدة سياسي إسرائيلي مثل بنيامين نتنياهو، مجرم حرب مطلوب للعدالة الدولة ويترأس الحكومة الأكثر عنصرية وتطرفاً وفاشية في تاريخ الكيان الصهيوني؛ كي يلوّح بخريطة الشرق الأوسط الوحيدة التي يعترف بها: «إسرائيل الكبرى».
لا حرج لديه، كذلك، في أن الذين قاطعوا خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أو الذين تظاهروا ضه بالآلاف أمام مقرّ المنظمة الأممية، كانوا (صراحة أو تضميناً) يستذكرون اضمحلال الفوارق المتبقية بين أعشاب غزّة المحترقة اليابسة التي يمضغها الفلسطيني، وأفران معسكرات أوشفتز التي التهمت أجساد يهود أوروبا.
وفي العودة إلى فيزل، تقول فقرة ثانية من بكائيته على دارفور: «كيف لنا أن نلوم غير اليهود على لامبالاتهم تجاه معاناة اليهود، إذا التزمنا نحن الصمت واللامبالاة تجاه محن الآخرين؟». وبالفعل، إزاء البربرية الإسرائيلية في قطاع غزّة، كيف لا يرفع ضدها إلا القليل الحائر، المرتبك، الخافت، الخجول… من أصوات يهود العالم؟



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد