الإعلام العمومي واحتجاجات جيل "Z": تحول حقيقي أم تمثيل سياسي

mainThumb

06-10-2025 10:00 PM

فجأة وجدنا الإعلام العمومي، ومعه جزء من الإعلام الخاص، يستفيق على وقع احتجاجات جيل "Z"، فيتحول بين عشية وضحاها إلى منصة مفتوحة للنقاش العام، ويكثف برامجه وحواراته وتحقيقاته، بل ويحرج بعض ضيوفه الرسميين بأسئلة غير مألوفة.
للوهلة الأولى قد يبدو الأمر وكأننا أمام انفتاح إعلامي جديد، لكن التدقيق في المشهد يكشف أننا إزاء لحظة ظرفية أقرب إلى التمثيل السياسي منها إلى تحول حقيقي في وظيفة الإعلام. والسؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: ما الذي كان يمنع هذا الإعلام من أن يكون صوتا لهذه القضايا قبل أن يشتعل الشارع؟ ولماذا لا يتحرك إلا تحت ضغط الاحتجاج؟
يصعب قراءة هذا الانخراط المفاجئ بمعزل عن منطق التوجيه من الأعلى، الذي ظل يحكم علاقة الإعلام العمومي بالدولة. فالإعلام الذي صمت طويلا أمام الأزمات البنيوية التي يعرفها المغرب ـ من التعليم والصحة إلى التشغيل والعدالة الاجتماعية ـ لا يمكن أن يصبح بين عشية وضحاها إعلاما نقديا "مستقلا" ما لم ترفع القيود عنه. لذلك، يبدو المشهد أقرب إلى حملة ظرفية هدفها امتصاص الغضب الشعبي واحتواؤه، أكثر مما هو خطوة باتجاه بناء نقاش عمومي دائم حول جذور الأزمة الاجتماعية والسياسية.
لا أحد ينكر أن المغرب يتوفر على صحافيين أكفاء يمتلكون القدرة على إدارة نقاشات جادة. وهذا يظهر بوضوح عندما تتاح لبعضهم الفرصة للالتحاق بقنوات أجنبية توفر لهم مناخ حرية أكبر، لكن المعضلة تكمن في السقف التحريري المفروض عليهم، والذي يدفع كثيرين إلى ممارسة نوع من الرقابة الذاتية، والاكتفاء بما هو مسموح، بدل ممارسة حقهم وواجبهم في طرح الأسئلة المزعجة. فالصحافي في نهاية المطاف ليس مجرد موظف لدى المؤسسات، بل هو فاعل مجتمعي ومسؤول أمام الرأي العام. ولكي يستعيد الإعلام هذا الدور، يحتاج الصحافيون إلى قدر من الجرأة المهنية للتحرر من هذه القيود، والتمسك بمبدأ أن وظيفتهم الأولى هي خدمة المجتمع لا السلطة.
ومع ذلك، يبقى لافتا أن الإعلام العمومي بدأ يفسح المجال أمام أصوات شابة تعبر بجرأة عن هموم جيلها. وهذا يعيد إلى الأذهان لحظة 20 فبراير، حين ظهرت لأول مرة على شاشات الإعلام العمومي وجوه من المعارضة، بينها حتى من يحسبون على تيارات راديكالية، دون أن يسقط السقف أو تتهاوى المؤسسات. هذا يطرح سؤالا عميقا: هل نحن بحاجة دائما إلى احتجاجات في الشارع حتى يتذكر الإعلام العمومي أن دوره ليس الترويج للشعارات الرسمية وتلميع الصورة، بل طرح الأسئلة الجوهرية ومساءلة السلطة عن مسؤولياتها؟
إن الاقتصار على التحرك في لحظات الأزمات يجعل الإعلام أقرب إلى أداة لتدبير الأزمات منه إلى سلطة رابعة حقيقية. ففي مثل هذه اللحظات، يبدو الإعلام وكأنه يلعب دور المعارضة، يخاطب الدولة بحدة غير معهودة، لكن هذه الحدة تظل ظرفية، مرتبطة بزخم الاحتجاج، وسرعان ما تنطفئ بانطفاء الشارع. هذا السلوك يعمق أزمة الثقة بين المواطن والإعلام، لأنه يرسخ صورة وسائط مرتبطة بميزان القوة في الساحة أكثر مما هي مرتبطة بدورها كمؤسسات للتنوير والمساءلة.
لذلك، فإن المطلوب اليوم ليس أن يتقمص الإعلام العمومي أدوار المعارضة بشكل ظرفي أو موسمي، بل أن يباشر مراجعة عميقة لوظيفته الأساسية، فيتحول إلى فضاء دائم للنقاش العمومي يعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويمنح المواطنين صوتا دائما وليس ظرفيا. كما ينبغي أن يوسع دائرة ضيوفه ومحاوريه على أساس كفاءتهم وصلتهم الفعلية بالموضوع قيد النقاش، ومعرفتهم الدقيقة به، بعيدا عن منطق الولاءات والصداقات الضيقة الذي يحول بعض البرامج الحوارية إلى فضاءات مغلقة ومكرورة، لأن بناء الثقة مع الجمهور يمر عبر الانفتاح على تنوع الرأي وجرأة السؤال، لا عبر الاكتفاء بالموالين والأصدقاء.
لذلك، فإن المطلوب اليوم ليس أن يتقمص الإعلام العمومي أدوار المعارضة بشكل موسمي، بل أن يقوم بمراجعة عميقة لوظيفته، بحيث يتحول إلى فضاء دائم للنقاش العمومي، يعكس التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ويمنح المواطنين صوتا دائما، لا ظرفيا. فالإعلام القوي والمستقل ليس ترفا، بل هو شرط من شروط بناء عقد اجتماعي جديد يقوم على الشفافية والمساءلة والثقة.



*أستاذ القانون الدستوري وعلم السياسة ( كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي- الرباط - المغرب)



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد