للنّساء بُردهنّ أيضا
كانت بردة البوصيري محطة أساسية في تطور فن المديح النبوي، فكثرت معارضاتها حتى بلغت المئات منذ أنشأها البوصيري قبل سبعمئة سنة إلى الآن، وإذا كانت المعارضة الشعرية في تعريفها البسيط هي كلّ قصيدة تحاكي أخرى وزنا وموضوعا وقافية، فإننا نستطيع القول بثقة بأن كلّ قصيدة ميمية مكسورة الرويِّ على البحر البسيط في مدح النبي هي معارضة لبردة البوصيري، بل «يمكن القول ـ كما يرى زكي مبارك ـ بأن جميع المدائح النبوية التي قيلت بعد البوصيري على الوزن والقافية كان أصحابها مسوقين بالروح البوصيرية» فبردة البوصيري ذات الـ167 بيتا تركت أثرا في ما بعدها، تتبعه الباحثون بتآليف مستقلة، من ذلك كتاب محمد فتح الله مصباح «بردة البوصيري وأثرها في الشعر العربي القديم» وكتاب عبد الله بيلا «بردة البوصيري وأثرها في الأدب العربي الحديث».
وقد اشتهرت بعض معارضات البردة، بل نافست القصيدة الأصل في شهرتها مثل، «نهج البردة» لأحمد شوقي وتفوّقت عليها فنيا أحيانا، رغم أن شوقي اعتبر نفسه غابطا للبوصيري ومقتديا به لا معارضا له حين قال: «اللَّهُ يَشهَدُ أَنّي لا أُعارِضُهُ.. من ذا يُعارِضُ صَوبَ العارِضِ العَرِمِ / وَإِنَّما أَنا بَعضُ الغابِطينَ وَمَن.. يَغبِط وَلِيَّكَ لا يُذمَم وَلا يُلَمِ». ورغم كثرة ما كتب عن البردة وأخواتها لم أجد من ذكر معارضات الشواعر لها، باستثناء قصيدة عائشة الباعونية، التي تُذكر على أساس أنها «بديعية» وليس معارضة للبردة، وقد عثرت أثناء إعداد كتابي «مادحات الرسول» على تسع قصائد تدخل ضمن اشتراطات معارضة البردة للشواعر، العائشتين الباعونية والتيمورية، وهند هارون، وزينب عزب، وباكزه أمين خاكي، وغزوة الكيلاني، وهيام الأحمد، ومريم يمق، وثناء شلش. وهو عدد يكفي ليُفرد بدراسة مستقلة، لما يمكن أن نسميه بردة النساء. فماذا قالت النساء في بردهن؟
قلّدت الشواعر بردة البوصيري في مبناها ومعناها، فحين ننظر إلى قصيدة عائشة الباعونية وهي أيضا قصيدة طويلة تبلغ 129 بيتا نجد أنها تفتتحها بالغزل مثل البوصيري، وتذكر الأماكن نفسها مثل: ذي سلم وكاظمة التي ذكرها البوصيري في مطلع بردته، وتستلهم فكرة أخرى من مقدمته الغزلية حين يخاطب صاحب البردة من يلومه على حبه، فيقول له الشاعر: لا تتعب نفسك «إنَّ المُحِبَّ عَنِ العُذَّالِ فِي صَمَمِ» وهو ما صاغته الباعونية على طريقتها: «وَعاذِلٍ رامَ سُلواني فَقُلتُ لَهُ.. مِن المُحال وُجودُ الصَّيد في الأَجَمِ/ أَتعبتَ نَفسكَ في عَذلي وَمَعذِرَة.. مِني إِلَيكَ فَسَمعي عَنكَ في صَمَمِ». ونجد اقتفاء آخر لأثر البوصيري من عائشة الباعونية في خاتمة قصيدتها، فحين يتوجه صاحب البردة إلى النبي بصيغة المخاطب ليجيب حاجته فيقول: «يا أكرَمَ الخلق مالي مَنْ أَلُوذُ به.. سِوَاكَ عندَ حلولِ الحادِثِ العَمِمِ» نجد الصيغة التالية المماثلة عند عائشة الباعونية: «يا أَكرَمَ الرُّسلِ سُؤلي مِنكَ غَيرُ خفِ.. وَأَنتَ أَكرَمُ مَدعوّ إِلى الكَرَمِ». وقصيدتها هذه هي التي شرحتها بنفسها في كتاب مطبوع بعنوان «الفتح المبين في مدح الأمين».
أمّا سميّتُها عائشة التيمورية فابتدأت قصيدتها أيضا بمطلع غزلي مشابه للبوصيري والباعونية قائم على تذكر منازل الأحباب والتشوق إليها، ذاكرة الأماكن البوصيرية نفسها: ذي سلم وإضم: «أَعَن وَميضِ سَرى في حُندُس الظُلم.. أَم نِسمَة هاجَت الأَشواق من إضَمِ/ فَجَدَّدَت ليَ عَهدا بِالغَرامِ مَضى.. وَشاقَني نَحو أَحبابي بِذي سَلَمِ» وتتبعتْ خطاه في ذمّ النفس الأمّارة بالسوء فقالت: «وَكَيفَ لي بِاِتِّعاظِ النَفسِ آمِرَتي.. بِالسّوءِ ناهيتي عَن مَورِدِ النِّعَم»، واختارت من فصول البردة أن تذكر معجزات النبي التي أصبح ذكرها إحدى الخصائص اللصيقة بالمدائح النبوية، فقلّما نجد قصيدة لا ذكر فيها لمعجزاته، وكلٌّ يتخيّر منها ما يستهويه، فقد ذكرت التيمورية بعضا منها. وفي ختام قصيدتها يتحوّل الخطاب كذلك إلى الصيغة المباشرة المتوجهة إلى النبي، وهي سنة بوصيرية اتّبعها من عارضوا قصائده، فنجد عائشة الباعونية تستشفع به، راجية أن يكون لها مددا لتنجو يوم القيامة: «يا خَيرَ من اِرتَجى إنْ لَم تَكُن مَدَدي … وَا زَلَّتي يَومَ وَضعِ القِسطِ وَالذِّمَمِ». وبيتها هذا ينظر إلى بيت البوصيري: «إن لم تكن في معادي آخذا بيدي.. فضلا وإلّا فقل: يا زلة القدَمِ».
ومن الشواعر اللواتي اتخذن من البردة برأة لجراحهن الشاعرة السورية هند هارون، فقد فقدت وحيدها عمار وهو شاب، فكتبت عنه ديوانين شعريين حتّى لقّبت بخنساء سورية. وحين كتبت قصيدتها التي بلغت 180 بيتا، وكانت أطول من قصيدة البوصيري عنونتها بـ«وهج البردة» لتبيان قصديّة المعارضة، وبعكس من سبقها من معارضي البردة، رجالا ونساء الذين يفتتحون قصائدهم بمقدمة غزلية، افتتحت هند هارون قصيدتها بذكر مصيبتها بفقد ابنها: «وَجدي يَمرُّ على الأحزانِ كالنّسَمِ.. دمعي يؤلِّقُه الإشراقُ في الألمِ/ ما دام يطعنُه ثَكلٌ يُمزّقني.. ما دمتُ أُمّا تعيشُ العمرَ بالوَصَمِ»، واجدة في ما حدث للرسول من فقد ابنه إبراهيم العزاء حين قالت: «أنتَ العزاءُ لصَدري إذ نَأى ولدي.. ودمعَتي لم تعدْ نارا على ضرَمي». وتختلف أيضا قصيدة هند هارون عن باقي معارضات البردة بمقدمتها الطويلة التي تبلغ قرابة 100 بيت أغلبها مناجاة إلهية نابعة من قلب أمٍّ ثكلى تجد في بث شكواها إلى الله ما يطفئ قليلا من جمر معاناتها. ثم تتخلص من هذه المقدمة الطويلة إلى تتبع سيرة المصطفى من المولد إلى الوفاة. ومثل ما جاء في نهج البردة لأحمد شوقي تعتذر عن معارضتها لهؤلاء الشعراء الكبار الذين كتبوا مديحا في نبيّهم فتقول: «ما لي أعارضُ أقطابا بعارضةٍ.. لا لست إلّا غماما عابرَ الدِّيَمِ».
وإذا كانت هند هارون تجاهر بأنها تريد أن تكتب ما يماثل بردة البوصيري، بل تتوق بشوق إلى ذلك: «أتوق للبردةِ الزّهراءِ لستُ لها.. أهلا ولكن هيامي موقِدٌ هِممي» فإن الشاعرة السورية مريم يمق (زاهية بنت البحر) تأبى أن تكون قصيدتها معارضة للبوصيري، بل هي عندها تتبّعٌ لأثر أمير الشعراء أحمد شوقي الذي قال: «اللَّهُ يَشهَدُ أَنّي لا أُعارِضُهُ.. من ذا يُعارِضُ صَوبَ العارِضِ العَرِمِ»، فقالت مستلهمة منه حتى الألفاظ: «بلا يَمينٍ فإنّي لا أُعَارضُهُ.. شَهَادَةُ الحَقِّ لا تَحْتَاجُ للْقَسَمِ/ واللهُ يَعلَمِ أنّي في تَتَبُّعِه.. كَمَا الأميرُ اقتَدَى بالعَارضِ العَرمِ»، وهي متأثرة بقصيدة شوقي أكثر من الأصل البوصيريِّ نفسه، صرحت بذلك مرة أخرى وضّمنت قصيدتها شطرا من شعره حين قالت: «(ريمِ على القَاع بَيْنَ البَان والعَلَمِ).. يَوْمَ انْشَغَلْتُ بهَا كَمْ أُزْلِفَتْ قيَمي»، ولكننا مع ذلك نجد مريم يمق تنسج على منوال البردة البوصيرية، فتفتتح قصيدتها الطويلة أيضا التي تبلغ 177 بيتا بحديث الحبّ، مفضلة مخاطبة قلبها على الوقوف على الأطلال. كما تخاطب من يلومها على حبها بما استوحته من بيت البوصيري: «يَا لائِمِي في الهَوَى العُذْرِيِّ مَعْذِرَة.. مِنِّي إلَيْكَ وَلَوْ أنْصَفْتَ لَمْ تَلُـمِ»، فتكاد تستعير ألفاظه حين تقول: «يا لائِمي في هواه لا تلُمْ ولِها.. أحْيا الفؤادَ بمنْ يخْشاه بالنِّعَمِ/ أحببْتُ فيهِ جَمالا لستَ مُدرِكَه.. إلَّا بنارِ الهوى فاعْذُرْ ولا تَلُمِ»، وتذكر النفس التي أخبرنا البوصيري أنها كالطفل في بيته الشهير، فتحذرنا منها أيضا في خطاب مباشر: «النَّفْسُ تَلْهُوْ بنَا في كَفّ غَانيَةٍ.. شَدَّتْ وثَاقَ الهَوَى جِنّيَّة الحُزُم»، ثم تتتبّع سيرة الرسول في تقليد مشى عليه من عارضوا البوصيري، وإن وجدنا في شعرها إسقاطات معاصرة لولاها لما عرفنا القصيدة في أي عصر كتبت كقولها: «في كُلّ دَارٍ لَهُمْ تلفَازُ يَسْحَقُنَا.. بمَا يَجيءُ به منْ بدْعَةِ النَّغَمِ».
وهناك تجربةٌ شعريةٌ انطلقت من بردة البوصيري، لكنها اختطّت طريقا مغايرا في الشكل، حيث كتبت الشاعرة المصرية زينب عزب ديوانا كاملا يدور حول البردة عنوانه «بردة الرسول.. رؤية جديدة» يصفه الباحث أحمد هيكل في تقديمه بأنه «عمل شعري متكامل موحّد الموضوع.. فهو أشبه بكتاب شعري ذي فصول، والفصول جميعا قد صيغت بلغة الشعر الحر». ولا يمكننا عدّ هذه التجربة الشعرية معارضة، بل تناصا مع البردة واستلهاما منها، غير أن لزينب عزب قصيدة أخرى يمكن اعتبارها من معارضات البردة ابتداء بعنوانها «عودة إلى أهداب البردة» مع استيفائها شروط البحر والروي والموضوع، وإن كانت ضعيفة البناء الشعري.
وتبقى الملاحظة الجوهرية أن جميع معارضات البردة النسوية تقليدية في لغتها تدور حول المعاني والأفكار نفسها، فلا خصوصية فيها تميزها عن معارضات الرجال إذا ما استثنينا حرقة الأم على وحيدها في قصيدة هند هارون. ولعل الخروج من عباءة البردة واجتراح لغة شعرية جديدة تعتمد المجاز، هو ما نقل قصيدة المديح النبوي النسوي إلى مستوى مختلف ظهرت إرهاصاته مع فوز الشاعرة العمانية بدرية البدري بجائزة كتارا لشاعر الرسول، إضافة إلى شواعر غيرها أثبت إبداعهن، أن للمرأة الشاعرة مقارباتها المختلفة في المديح النبوي بعيدا عن الهيمنة الرجالية على هذا الفن.
شاعرة وإعلامية من البحرين
إنهاء اعتصام القلابات واجتماع مرتقب لحل الخلاف
جامعات تنظم برامج علمية وثقافية متنوعة
ترامب حول غزة: الوقت هو الفيصل وإلا ستُسفك الدماء
خبر ارتباط حسام حبيب بنجمة لبنانية يضج المواقع
قيادات فلسطينية ضمن قائمة المفاوضات .. أسماء
إقرار نظام مكاتب وشركات السياحة والسفر
نحو مسار موحد للقوى المدنية السودانية
د. الشّعلان تصل إلى القائمة القصيرة لجائزة تاريخ المستقبل
انقلاب ترامب وحماس على نتنياهو
هل ينقلب نتنياهو على خطة ترامب بعد تسلم الأسرى
الصحفيون في فلسطين بين نار الاستهداف وصمت العالم
وظائف حكومية شاغرة ضمن عقود محددة المدة .. تفاصيل
فرصة للباحثين عن عمل .. وظائف ومدعوون للتعيين
أتمتة 22 خدمة إلكترونية بهيئة الاعتماد لضمان الجودة
إيرادات مزاد أرقام السيارات المميزة 3.970 مليون دينار
مهم للباحثين عن عمل في الحكومة
الممر الإغاثي الأردني: رمز الصمود
إطلاق هوية جديدة لمنصة ادرس في الأردن
تصريحات ترامب تربك المرضى بشأن باراسيتامول واللقاحات
دواء جديد يستهدف سرطان البنكرياس ويزيد فرص النجاة
مهم لموظفي القطاع العام بشأن الابتعاث
الذهب يقفز في التسعيرة المسائية .. أرقام
حزب المحافظين الأردني يستوفي إجراءات التأسيس