القاضي فرانك كابريو: إنسانية العدالة بين النص والروح

mainThumb

08-10-2025 05:22 PM

القاضي الأمريكي فرانك كابريو ليس مجرد قاضٍ عادي، بل رمز لروح العدالة التي تتجاوز نصوص القانون الجامدة لتصل إلى روح الإنسان. في محكمة المرور بمدينة بروفيدنس بولاية رود آيلاند، حوّل كابريو القاعة القضائية إلى مساحة تفيض بالتفهم والإحساس الإنساني. لم تصدر شهرته من أحكامٍ مثيرة أو قضايا كبرى، بل من أسلوبه الفريد في تطبيق القانون بروحٍ إنسانية تُعيد إلى العدالة معناها الأصلي: الإنصاف قبل الردع.

كان كابريو ينظر إلى المتهم لا بوصفه مخالفًا فحسب، بل إنسانًا له ظروفه، فيسأل عن وضعه الاجتماعي وصحته وأسرته قبل النطق بالحكم. كثيرًا ما كان يُعفي المخالفين إذا لمس في قصصهم صدقًا ومعاناة حقيقية، وكان يمازح الأطفال المرافقين لذويهم ويشركهم في الحكم بطريقة مرحة، محوّلًا المحكمة إلى فضاء تربوي يعيد الثقة في القانون. بهذا السلوك أثبت أن العدالة لا تتحقق بالصرامة وحدها، بل بالرحمة التي تراعي الإنسان دون أن تُفرّط في المبدأ.

ومن أكثر المواقف تأثيرًا قصة السيدة التي فقدت منزلها وأصبحت تنام في سيارتها، فلما سُحبت المركبة لم يعد لها مأوى. وقفت تبكي أمام المحكمة، فأمر كابريو بدفع الغرامة عنها وإعادة السيارة إليها، بل وأعطاها خمسين دولارًا للطعام. لم يُعِد لها مركبتها فحسب، بل أعاد لها كرامتها وثقتها بالإنسانية. وفي موقف آخر، أُوقف رجل تسعيني لتجاوزه إشارة المرور أثناء نقله ابنه المصاب بالسرطان إلى المستشفى، وحين روى قصته بصوت متهدّج، تأثر كابريو وقال إن بعض الحالات لا يمكن أن تُقاس بمسطرة القانون وحدها.

ولم تقتصر مواقفه على الفقراء أو كبار السن، بل شملت الجميع. ففي إحدى القضايا، تعامل مع طالبة سعودية ارتكبت مخالفة بسيطة لانشغالها بظروفها الدراسية، فاستمع إليها باهتمام، وألغى الغرامة مؤكدًا أن الفرص الثانية قد تُنقذ الإنسان أكثر مما تفعل العقوبات.

كنتُ أتابع هذه المواقف وأمسح دموعي لا إراديًا. وبعد ما يقارب خمسة وأربعين عامًا من العمل في ميادين السياسة والعلاقات الدولية، أدركت أن القيمة الحقيقية للإنسان لا تُقاس بالمناصب أو النفوذ، بل بما يحتفظ به من إنسانية وسط صخب العالم. علّمني كابريو أن التفهّم لا يقل شأنًا عن الانضباط، وأن الرحمة لا تُضعف الهيبة، بل تمنحها جلالًا وعمقًا. ومنذ ذلك الحين، صرت أؤمن بأن القيادة الحقيقية تُمارَس بالحكمة التي تحتضن الضعف الإنساني دون أن تتنازل عن المبدأ.

هذه القناعة لا تنفصل عن واقع العمل الإداري، حيث نجد مسؤولين يلجأون إلى القسوة ظنًا أن اللين يُفقدهم الهيبة، بينما التجارب تثبت أن الاحترام المتبادل هو أساس القيادة الناجحة. فالقسوة قد تُنتج خوفًا مؤقتًا، لكنها لا تبني ولاءً ولا انتماءً، في حين أن الكلمة الطيبة والاحترام الصادق يصنعان بيئة عمل صحية ومستقرة.

ما يلفت الانتباه في تجربة كابريو أنه لم يُفرّق بين أمريكي ومهاجر، بين غني وفقير، أو بين متدين وغير متدين. الجميع أمامه سواء، ولذلك نال احترامًا عالميًا، وتحولت مقاطع جلساته إلى رسائل إنسانية تتجاوز الحدود القومية والدينية.

وعند مقارنة ذلك ببعض المحاكم في الدول الإسلامية، تظهر المفارقة المؤلمة. فالإسلام دين العدل والرحمة، والقرآن الكريم مليء بالآيات التي تؤكد على الإنصاف والإحسان، كقوله تعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾، وقال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾.
ومع ذلك، يواجه كثير من المتقاضين في بعض البلدان الإسلامية تعاملًا قاسيًا يفتقر إلى روح الشريعة. فقد شاهدتُ بنفسي جلسة في دولة عربية كان القاضي فيها شديد التعسف مع أحد المتهمين رغم كِبر سنه ومكانته العلمية، وكأنه يتلذذ بإذلاله. آلمني المشهد لأن الإسلام الذي ننتسب إليه هو دين الرحمة قبل العقوبة، بينما نجد قاضيًا غير مسلم يجسّد هذه القيمة عمليًا.

إن جوهر العدالة في الإسلام ليس تطبيق النصوص بحرفيتها فحسب، بل الموازنة بين النص والظرف الإنساني. وقد جسّد عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المبدأ حين أوقف حد السرقة في عام المجاعة لأن الظروف الاستثنائية لا تسمح باعتبار السرقة جريمة كاملة الأركان. غير أن هذا الفقه الرفيع يغيب أحيانًا عن الواقع القضائي المعاصر، فيُطبَّق القانون وكأنه آلة صمّاء لا تعرف للرحمة طريقًا.

ومن خلال تجربة كابريو يمكن أن نستلهم فكرة عملية تُعيد للعدالة بعدها الإنساني، وهي إنشاء صندوق تبرعات في المحاكم يُموَّل من المحسنين لتسديد الغرامات عن غير القادرين، بإشراف لجان قضائية وجمعيات خيرية تضمن الشفافية وتمنع الاستغلال. هذه المبادرة ستجعل المحكمة فضاءً للإنصاف لا للعقوبة فقط، وتعيد للمحتاج كرامته دون المساس بهيبة القانون.

لو تم تطبيق مثل هذا المشروع في العالم العربي، لخفّت كثير من المعاناة، ولأُغلقت ملفات لا تُحصى من قضايا الديون والغرامات الصغيرة التي تدمّر حياة أصحابها. فهي وسيلة تجمع بين العدالة القانونية والرحمة الاجتماعية، وتحوّل المحكمة من مؤسسة للعقاب إلى مؤسسة لبناء الثقة والإنسانية.

تجربة القاضي كابريو تضعنا أمام سؤال جوهري: لماذا نجد روح العدالة في محكمة أمريكية، بينما نفتقدها في بعض محاكم بلدان تستمد قوانينها من الإسلام؟ الجواب ليس في النصوص، فهي واضحة وصريحة، بل في طريقة التطبيق التي تحتاج إلى قضاة يوازنون بين الصرامة والرحمة، وبين حماية النظام العام وصون كرامة الأفراد.

العدالة الحقيقية ليست تلك التي تُقاس بميزان الحديد، بل التي تضع الإنسان في مركزها، وتُدرك أن القانون وضع لخدمة البشر لا لإخضاعهم. فالقاضي ليس موظفًا يقرأ النصوص، بل شاهدًا على ضمير المجتمع ومرآة لرحمته وعدله. وهذا ما جسده كابريو في محكمته، وما نحتاج أن نراه في محاكمنا ومؤسساتنا التربوية والإدارية على السواء.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد