سحر الجغرافيا ومزاج الرواية
في تاريخ الأدب الإنجليزي، تقف ثلاث نساء كأنهن علامات على طريق طويل يمتدّ من القرن التاسع عشر إلى بدايات القرن العشرين: جين أوستن، شارلوت برونتي، وفرجينيا وولف. لم تلتقِ أي منهن بالأخرى، لكن أرواحهن الأدبية التقت عبر النصوص والنقد والذاكرة. بين ما يعرف بفترة الريجنت (الوصاية) والعصر الفيكتوري ومطلع الحداثة، تغيّر الزمن كما تغيّرت نبرة المرأة الكاتبة: من المراقبة الهادئة إلى العاطفة المشتعلة، ثم إلى التأمل الوجودي في الوعي ذاته.
حين قرأت شارلوت برونتي رواية كبرياء وهوى بتوصية من الناقد جورج لويس، لم تخفِ خيبة أملها فكتبت له في رسالة عام 1848 تقول:
«وجدتُ صورة دقيقة لوجه عادي؛ حديقة محاطة بعناية، حدود أنيقة وزهور متناهية الرقة؛ لكن لا لمحة من ملامح زاهية وحية، لا هواء نقي، لا تلة زرقاء، لا جدول جميل.»
كانت كلماتها تعبيراً عن اختلاف جوهري في المزاج الفني بين الكاتبتين. أوستن، التي نشأت في زمن الريجنت وما بعدها، كتبت بعين اجتماعية حادة ترى الناس في قوالبهم الطبقية والأخلاقية. عالمها منضبط، أنيق، يراقب العاطفة ولا يسمح بانفجارها. أما برونتي، ابنة الشمال الفيكتوري العاصف، فقد جاءت من بيئة يلفّها الضباب والمطر، وكان قلبها أكثر انفعالًا من أن يحتمل الاتزان الهندسي لجين أوستن.
لم يكن نقدها لأوستن ازدراءً، بل كان اختلافاً في طبيعة التجربة. كانت تبحث في الرواية عن العاطفة التي تُحرك الإنسان، لا عن القواعد التي تضبطه. وفي رسالة أخرى عام 1850 كتبت بعد قراءتها لرواية إيما:
«قرأتُها باهتمام، لكنها لا تعبث بمشاعر قارئها بشيء عنيف، ولا تهزه هزة عميقة. العواطف مجهولة تماماً لها.»
هنا نرى شارلوت برونتي كصوت منفتح على الثورة الداخلية، تتوق إلى حرارة التجربة الإنسانية، بينما كانت أوستن تميل إلى الحياد المراقِب. الفرق بينهما هو الفرق بين غرفة جلوس تضيئها الشموع، ونوافذ تهتزّ أمام العاصفة؛ الأولى تمثّل النظام الاجتماعي الرصين، والأخرى تمثل تمرّد الفرد على صمته.
ولعلّ هذا التناقض هو جوهر التطور في الرواية الإنجليزية: كل جيل من الكاتبات كان يكتب ضد الحدود التي ورثها. فإذا كانت أوستن قد أرّخت للزواج والعُرف والعائلة، فإن برونتي جعلت من الرواية اعترافاً بالعاطفة والتمرد والذات. هي لم تكتب عن المجتمع فحسب، بل عن الإنسان الذي يتنفس ضدّه.
بعد عقود، جاءت فرجينيا وولف، ابنة لندن وأحد وجوه الحداثة، لتنظر إلى الأخوات برونتي من زمنٍ آخر، زمنٍ لم تعد فيه الرواية مرآة للواقع، بل مرآة للوعي. في مقالتها الشهيرة «جين إير ومرتفعات وذرينغ» كتبت فرجينيا عن شارلوت برونتي قائلة:
«تمسك بيدنا، تجبرنا أن نسير في طريقها، لا تتركنا لحظة، ولا تسمح بأن ننساها.»
وولف رأت في برونتي قوة نادرة، طاقة من الغضب الأنثوي النبيل، لكنها لاحظت أن هذا الغضب جعلها تكتب وكأنها تدافع أكثر مما تكتشف. بالنسبة لوولف، كانت إميلي برونتي أكثر قدرة على تحويل الواقع إلى عالم من الرموز، لأن مرتفعات وذرينغ تحرر الحياة من ثقل الوقائع، وتجعلها طقسًا شعريًا خالصًا. ومع ذلك، ظلّت وولف ترى في شارلوت جسراً حقيقياً نقل الرواية من الأخلاق إلى العاطفة، ومن المجتمع إلى الذات.
عام 1904، زارت وولف بيت برونتي في قرية هاورث، فكتبت مقالة عن المكان والذاكرة، قالت فيها إن البيت «يشبه الكاتبة كما يشبه الحلزون قوقعته». لم يكن المكان فخماً ولا واسعاً، بل متقشف، تحيط به المقبرة والحقول الباردة. ومع ذلك، وجدت فيه وولف المعنى العميق لعزلة الكاتبة التي كتبت من قلب الصمت الريفي روايات ملأت الأدب بضجيج الروح. كانت تقول إن الجغرافيا قد تفسّر شيئاً من العبقرية، لكنها لا تخلقها؛ فالعظمة تولد من الداخل، من ذلك الاضطراب الذي لا تهدأ عليه النفس.
وبين أوستن وبرونتي ووولف، تتغير ملامح الرواية كما يتبدل المناخ البريطاني نفسه. في زمن الريجنت، كانت اللغة مشذّبة كحديقة أرستقراطية. في العصر الفيكتوري، صارت الرواية مثل العاصفة، تتحدى المجتمع والقدر. ثم في زمن الحداثة، تحولت الكتابة إلى نهر متدفق من الوعي، تبحث عن الذات بين التجزؤ والذاكرة.
ومع ذلك، فإن ما يجمع بين هؤلاء النساء الثلاث أعمق من اختلاف العصور: كلهن كتبن ضد السائد، وكلهن فتحن نافذة في جدار مغلق. أوستن وضعت القواعد، وبرونتي كسرتها، ووولف تجاوزتها نحو الحلم واللاوعي. وفي هذا التسلسل تكمن قصة الرواية الإنجليزية ذاتها: رحلة من المراقبة إلى التجربة، ومن التهذيب إلى الحرية.
تلك ليست مجرد أجيال أدبية، بل تحولات في الوعي الأنثوي نفسه. فكل واحدة منهن، بطريقتها الخاصة، كانت تقول للعالم إن الكتابة ليست ترفاً نسوياً، بل فعل حياة، ومقاومة للصمت. وربما لهذا ما زالت أصواتهن تتردد حتى اليوم، كلما فتحت امرأة كتاباً لتحكي قصتها، أو لتبحث عن نفسها في زمن يتغير كما يتغير الطقس فوق التلال الإنجليزية.
أربعون سيناتورًا يطالبون ترامب برفض ضم الضفة
حماس تؤكد لتركيا التزامها بوقف إطلاق النار
تركيا تمدد مشاركتها في قوات الأمم المتحدة في لبنان
إسرائيل تتسلم جثتين جديدتين من غزة
برشلونة يكتسح أولمبياكوس بسداسية ويعتلي الصدارة الأوروبية
أونروا: إسرائيل تمنع دخول 6000 شاحنة مساعدات
الأردن .. مملكة الصمود وضمير الإغاثة
أردني يقتل طفليه انتقاماً من زوجته في سيل الزرقاء .. تفاصيل
الفاتيكان يندد باعتداءات المستوطنين على المسيحيين في الضفة الغربية
منتدى الاستراتيجيات: تجاهل الأصول يهدد التنمية
نقابة الصحفيين تبحث إحالات التقاعد المبكر الأربعاء
بريطانيا تشطب هيئة تحرير الشام السورية من قائمة الإرهاب
إغلاق مصنع صحون مخالف يهدد سلامة الغذاء
تفسير حلم الامتحان للعزباء في المنام
دلالة رؤية ورق العنب للعزباء في المنام
الأردنية: فصل نهائي بانتظار طلبة شاركوا في المشاجرة الجامعية
وظائف ومدعوون للتعيين .. التفاصيل
إغلاق طريق كتم وتحويل السير إلى الطريق الرئيسي (إربد – عمّان)
إحالة موظف في أمانة عمان للمدعي العام .. تفاصيل
إطلاق حزب مبادرة رسميًا لتعزيز العمل الحزبي وتمكين الشباب
أسعار الذهب محليا تسجل قفزة جديدة
الشارع المغاربي بين العود الأبدي والهدوء المريب