مأزق الرهان على الهوية الطائفية

mainThumb

10-11-2025 11:55 PM

الرهان على الهوية الطائفية، أو انتظار أن تمطر السماء العراقية منًّا وسلوى أمريكيًا، هو الملاذ الأخير للقوى التي زجّت جماهير العراق في أزماتها منذ الغزو والاحتلال عام 2003، وذلك في الانتخابات المقرر إجراؤها في الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2025.

ورغم كل التصعيد الدعائي والإعلامي بأن هذه الانتخابات ستكون مفصلية في المشهد السياسي العراقي، وأنّ أمريكا ستفك ارتباط العراق بالمحور الإيراني عبر مبعوثها الجديد مارك سافاريا، وأن الحكومة المقبلة ستتشكل فورًا بفضل "الساحر الأمريكي الجديد"؛ فإن كل ذلك ضربا من الخيال أكثر مما هو تمنيات في الاطار الدعائي وما ينتج عنها ابقاء جماهير العراق المتطلعة للحرية والمساواة والرفاه في حالة انتظار.

الجديد في هذه الانتخابات التي تُدقّ لها الطبول الاعلامية باعتبارها انتخابات "نقطة حسم"، هو عاملان: تغيّر الإستراتيجية الأمريكية وعودتها بقوة إلى المنطقة ومحاولتها إعادة التموضع في الشرق الأوسط — والعراق جزء أساسي منه — عبر فكِّ ارتباط العراق عن المحور الإيراني؛ والعامل الثاني هو خوف القوى الشيعية الدائرة في الفلك الإيراني من العقوبات الأمريكية واحتمال فرض بديل "سنّي"، أو كما يُسوِّقون له، إعادة البعثيين القدامى أو أي طرف آخر موالٍ بالمطلق لواشنطن إلى رأس السلطة.

بمعنى آخر، كلّ المتنافسين من "الإخوة الأعداء" في البيت الشيعي، بمن فيهم السوداني - الذي ادلى بتصريح مفاده عدم نزع سلاح الميليشيات إلا بعد انسحاب قوات التحالف الدولي، فهي طمأنة انتخابية ودغدغة سياسية للمليشيات ومحاولة لشراء الوقت حتى انتهاء الاقتراع، إلى جانب مناورة عسى ولعل يحصل على ضمانة لولاية ثانية بدعمها- يسعون لإعادة إنتاج أنفسهم سياسيًا والحفاظ على مواقعهم، لأنّ الجميع يدرك أنّ تراجع النفوذ الإيراني ليس العامل الوحيد؛ فالوضع الداخلي الإيراني هشّ، والنظام يعاني أزمة اقتصادية وانقسامًا سياسيًا عميقًا. وإحدى المعطيات المادية هي تجميد قانون الحجاب الإجباري على النساء وإلغاء شرطة الآداب، والذي لم يُسلَّط الضوء عليه بشكل تحليلي وافي لتداعياته، كإحدى مؤشرات بدء مرحلة تفكك الجمهورية الإسلامية على الصعيد الاستراتيجي. فكما نعرف، على مدى أربعين عامًا من عمر الجمهورية الإسلامية، كان فرض الحجاب على النساء واعتقالهن والحكم على الآلاف منهن بالعقوبات والغرامات المالية، وآخرها الاحتجاجات التي اندلعت بعد قتل مهسا أميني في مراكز الاعتقال على إثر نزع حجابها، جزءًا من هوية الجمهورية الإسلامية ورمز بقائها وإحدى الركائز الأساسية للنظام. اليوم، يعترف المسؤولون في إيران بأنّ هناك 10٪ من الشعب الإيراني متدين، أمّا 90٪ من الشعب الإيراني — على حدّ قول محمد باهنر، عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام — يطمحون إلى العيش بشكل حر ودون قيود، ويجب أخذ هذه المسألة بنظر الاعتبار، وهو الأمر الذي أشعل غضبًا واسعًا وكبيرًا داخل الطبقة الحاكمة في إيران.

وفضلا على ذلك، يدرك النظام الإيراني خطورة اللحظة، وأنّ العاصفة التي بدأت من غزة لم تصل إليه بالكامل بعد، لذا يستعد لترتيب أوراقه — ومن ضمنها التسريبات الإعلامية حول تعبئة الميليشيات والجماعات الموالية له في العراق كعمق دفاعي و ورقة تفاوضية لحماية بقائه. كما وتأتي تهديدات نعيم قاسم الأمين العام لحزب الله اللبناني بالذهاب الى حرب أهلية لو تم محاولة نزع سلاحها، في سياق ترتيب تلك الأوراق. وهذا يوضح بالرغم من تراجع النفوذ الإيراني لكنه من الحماقة السياسية تجاهل حقيقة أنّ إيران ما زالت لاعبًا لا يستهان بها في المنطقة.

المهم أنّ المشكلة الحقيقية لا تكمن في الانقسامات التي تبدو ظاهريًا من خلال نزول أطراف الإطار التنسيقي بشكل منفرد في الانتخابات؛ ففي كلّ الانتخابات السابقة خاضت أطرافه المنافسة الانتخابية بصورة منفصلة عن بعضها، ثم التحمت بعد ذلك تحت قبة البرلمان لتطلق ما يطيب لها من عنوان مثل "البيت الشيعي". إنّ جوهر الأزمة يكمن في غياب إستراتيجية موحّدة للخروج من المأزق الذي وضعتها فيه الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في الشرق الأوسط. فهذه القوى باتت بين مطرقة أمريكا وسندان إيران، وكل طرف داخل الإطار التنسيقي يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه أو النجاة بجلده من هذا المأزق.

وفي ظل هذه التحولات، نجد تسخين بازار الشعارات الطائفية في هذه الانتخابات الذي هو تحصيل حاصل، وليس نتاج التنافس الانتخابي، بل انه جزء من الاستعداد للتعبئة الاجتماعية والسياسية لقادم الأيام التي ينتظرونها بعد الانتخابات؛ من منهم بخوف وريبة على مستقبله مثل القوى الإسلامية الشيعية الموالية لايران، ومن ينتظر بفارق الصبر للاحتفاء بالانتصار المرتقب مثل القوى السنية المدعومة من المحاور الإقليمية الأخرى.

وما يثير السخرية في هذه الشعارات الطائفية التي تتنافس عليها القوى السياسية بإنفاق ملايين الدولارات مجهولة المصدر على سبيل المثال "لا تضيّعوها" لتحالف قوى الدولة بقيادة عمار الحكيم، أي لا تضيّعوا السلطة من يد "الشيعة"،- وكأنّ مَن وصموا بالتصنيف الشيعي عنوة، وهم عمّال ونساء وشباب ومثقفين أحرار عاشوا بنعيم سلطة الأحزاب الشيعية التي حكمت منذ اكثر من عقد ونصف وتنعموا بثروات مناطقهم من النفط والغاز وريع الموانئ، وليسوا هم من خرجوا في انتفاضة أكتوبر2019 لكنسهم أي تلك الأحزاب الشيعية وميليشياتها وإعادتهم إلى كهوف العصر الحجري؛ وشعار "نحن أمة" لقائمة التقدّم بقيادة محمد الحلبوسي، أي أنّ "السنّة" لن يتنازلوا عن حصتهم — في الوقت الذي تئنّ فيه الآلاف المؤلفة من النازحين والمناطق التي هُجِّروا منها منذ اجتياح عصابات داعش لمناطقهم، من دون أن يحصلوا على التعويضات أو تُعاد لهم ممتلكاتهم أو يُؤمَّن لهم مستقبلهم او يتم اطلاق سراح الاف من الأبرياء بحجة التعاون مع داعش او وضع حد للإخفاء القسري او العودة الى مناطقهم. وبين هذه الشعارات، تتبادل الأطراف البيانات والتصريحات التي تبثّ الخوف بين الجمهور المُصنَّف شيعيًا من السنّة وبالعكس.

أمّا أزمات العراق الجوهرية — جفاف دجلة والفرات، تهديد معيشة أكثر من 4 ملايين إنسان بين موظفين وعمال بسبب احتمال هبوب عاصفة الأزمة الاقتصادية على أثر انخفاض أسعار النفط، الانهيار التعليمي والخدمي، البطالة التي تزداد سنويًا بربع مليون خريج — فليست ضمن حسابات هذه الطبقة الحاكمة التي لا تملك سوى إعادة بثّ القيح الطائفي في المجتمع لحماية نفوذهم وامتيازاتهم وبقائهم في السلطة .

بيد ان ما لا يسر هذه الطبقة الطفيلية ان وعي الجماهير اليوم أعلى بكثير، ولن تنطلي عليها اللعبة الطائفية مجددًا؛ فالتراجيديا الطائفية التي بدأت بعد عام 2003 تحولت اليوم إلى مهزلة حقيقية، ولن تسعفها لا في الانتخابات ولا بعدها.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد