كُنْ إيجابياً

mainThumb

15-11-2025 04:43 PM

شاءت ظرُوفها السيئة وحظها التّعس أن تقف في عربة القطار المُنطلق من القاهرة إلي مدينة طنطا محطة نزولها، حيث لم تجد مكانا للجلوس؛ بسب عودة الموظفين وطلبة الجامعات إلي مواطنهم الأصلية ساعتئذ .
أخذ القطار يضيق بالركاب رويدا رويدا إلى أن صار عند انطلاقه أشبه بعُلبة (السردين) ليس فيه موضعٌ لقدم، وأضحى من استطاع الوقوف على رجليه داخل العربة من ذوي الأملاك، يحسُده من وقف في مدخل باب عربة القطار المفتوح على مصرعه، يُحاذر السقوط المُفضي إلي الموت المحقّق . وحيث إنها فتاةٌ في ريعان الشباب، حباها الله جمالا يخطفُ الأبصار، التفّ حولها كلّ من دلف من عربة القطار؛ عساه أن ينعم بإرناءة لحظ حانية، أو كلمة غضّة، تُنسيه مرارة الزحام الشبيه بيوم الحشر .
ضاقت الفتاة ذرعا بازدحام العربة، وما استتبعه ذلك من نظرات فتاكة، وأياد طائشة، التطمت بجسمها البض، وادعى أصحابُها أنّ ذلك لم يكن عن قصد .
أبصرتْ عيناي المشهد عن قرب، إذ كنتُ أحد المحظوظين، الذين ظفروا بمقعد للجلوس؛ ببركة ( دعا الوالدين )، فراعني ما تُعانيه تلك الفتاة من مضايقات، تصبب لها وجهُها عرقا، وأرادت بسببها النزول قبل إقلاع القطار، ولكن هيهات لها أن تعود أدراجها .
حدثتني نفسي أن أقوم لتجلس مكاني، فخانتني رجلاي؛ مخافة ما ينتظرُني، إذا أقدمت على تلك الخطوة الجريئة من التطام والتحام وعَرَقٍ للركب، وربما (نشل حافظة النقود)، وكسر (نظارة القراءة) المعلّقة بجيبي .
لم يتركني وخزُ ضميري أهنأ بالجلوس على مقعدي الصُلب، والذي كان ألين عندي من ريش النعام، إذا ما قورن بالوقوف وسط هذا الزحام الخانق، فبلعتُ على الفور (حبة شجاعة)، وهممتُ واقفا تاركا مقعدي، الذي لو شئتُ لتقاضيت عنه(خلو رِجل) من تلك الفتاة المسكينة، فثمّنت الفتاة صنيعي، وانبرى لسانُها يلهج لي بالدعاء .
مشهدٌ كثيرا ما نراه إمّا في المواصلات العامة أو في طابور إحدى الجمعيات الاستهلاكية، أو أمام مخبز أو في مصلحة حكومية، يتصارع فيها المواطنون للوصول إلي مأربهم وقضاء مصالحهم، دون الالتفات إلي ضعف امرأة أو براءة طفل أو أنين مريض، أو توسلات عاجز، أو استغاثة مستجير، لسان حال الكلّ: (أنا ومن بعدي الطوفان) .
إننا ـ ياسادة ـ أمةٌ يتنامى عددُها عاما بعد عام رغم ثبات الموارد، فتوزع ما كان ينعم به الفردُ الواحد بالأمس على العشرات، وربما المئات .
وتعايشا مع تلك الأزمة، أزمة زيادة العدد، وثبات الموارد، فلابد لنا من القناعة والرضا، والتعاون علي البرّ والتقوى، وإغاثة الملهوف، ونصرة المحتاج، ورحمة الضعفاء؛ لكيلا نصير سباعا ضارية، يأكل القوي الضعيف، ويبطش ذو العزّ والسلطان بمن لا سلطان له، أو شوكة تمنعه وعزوة تحميه .
إن ديننا دينُ رحمة، يدعو إلي التعاون وإلى مكارم الأخلاق، ويرفض الفسوق والعصيان، وأيُّ فسوق أشدُّ من قهر صبي، وظلم امرأة، وغضً الطرف عن استغاثة مُحتاج وأنين مكلوم، وأكل أموال الناس بالباطل ؟
أيّ ظلم أشدّ من تعطيل مصالح المواطنين، بحجة أنّ السيد المسئول (معه تليفون)، يُناقش فيه مع حرمه المصون قضايا الساعة مثل: ماذا أعدت علي الغداء ؟ وهل جهزت الأسرةُ نفسها لحفل المساء وخلافه !
أيّ ظلم أشدُّ من حبس أوراق الناس في الأدراج؛ انتظارا لمظروف محشو ببنكنوت مقابل تأدية الخدمة، وعدم تعطيها ؟!
أيُّ ظلم أشدّ قُبحا من أن يدفع المرءُ الرشاوى - المُسماة زورا بالإكرامية - ليلتحق ابنُه بأفضل الكليات، ويُحرمُ ابنُ من لا يقدر على ذلك حتى ولو كان هو الأكفأ والأحق؟
أيُّ ظلمٍ أشدّ من السلبية ورفع شعار: ( الباب اللي يجي لك منه الريح سده واستريح)، وما يستتبعُ ذلك من صمت عن قول الحق، ومُجابهة كلِّ صور الفساد، سواء في العمل أو البيت، الشارع أو المتجر، السفر أو الإقامة؛ مما يزيد معه اتساعُ الخرق علي الراقع، فتضيع حقوق، ويُظلمُ أفراد وتفسدُ أمة، كانت وستظل خيرَ الأمم؛ إذا ما حرص أفرادُها على أن يكونوا إيجابيين !



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد