ابعد تحلّا

ابعد تحلّا

16-12-2025 08:07 PM

الزواج ليس بداية تأسيس أسرة صغيرة فقط، بل اختبار حقيقي للحدود؛ حدود الخصوصية، وحدود التدخّل، وحدود المسافة بينك وبين الآخرين. وقبل الفستان الأبيض والصورة التذكارية، يفرض نفسه السؤال الأخطر، القادر وحده على إنجاح الزواج أو تحويله إلى مسلسل عائلي طويل لا ينتهي: أين سنسكن؟ سؤال يبدو بسيطًا، لكنه كفيل بأن يصنع راحة طويلة أو تعبًا دائمًا. فالمسافة منذ البداية ليست تفصيلًا جانبيًا، بل خط الدفاع الأول عن الخصوصية والاستقرار.

في كثير من الأحيان، تبدأ معركة السكن قبل أي شيء آخر، لا تقلّ حدّة عن ذروة هرمونات العروس يوم الفستان الأبيض. معركة تُداس فيها الأحلام تحت أقدام «وجهات النظر»، ويتقدّم فيها الجميع كخبراء في جغرافيا الحياة الزوجية: أين سيعيش العروسان؟ ومن سيكون الجار الأقرب… أهل العروس أم أهل العريس؟ وهنا تبدأ الملحمة.

أولًا، الحماة الكاسرة ترى أن ابنها قطعة أثاث ثمينة يجب أن توضع قربها. تريد أن تراه، تسمعه، تشمّه، وتراقب تفاصيل يومه.

وفي الجهة الأخرى، يقف والد العريس، الأب الطيب، رجل يؤمن بالرحمة لكنه يحب أن يكون ابنه على بُعد صرخة.

أما العروس، فحدّث ولا حرج. تحلم بشقّة على سطح المريخ إن استطاعت، المهم أن تبتعد عن «زوّار المفاجأة» و«القطارات البشرية». تريد بيتًا مستقلًا، بلا لجان متابعة ولا مراقبين.

وهنا يظهر الزوج الهادئ، وسط إعصار من الآراء. الجميع يريد أن يقرر عنه، من الحماة إلى العمّة، مرورًا بجار حضر الخطبة مصادفة.

فالاستقلال ليس رفاهية، بل أساس الحياة الزوجية وأسرة صغيرة مستقرة. هل تتزوّج لتعيش مع زوجتك أم لتنتقل إلى قسم العائلة الممتدة حيث تُحدَّد تفاصيل يومك ولون وسادتك ووقت نومك؟

ما أجمل الزواج حين يكون خصوصية وزيارات لطيفة، لا استدعاءات طارئة ولا مراقبة لحركة الملاعق في المطبخ. وما أسوأه حين تتحوّل حياتك إلى سلسلة أسئلة لا تنتهي:

أكبر خطأ أن تسكن قرب بيت أهلك أو بيت أهل زوجتك، أو بجانب أحد من العائلة؛ فكل خطوة محسوبة، وكل صوت مسموع، وحتى الشجار يتحوّل إلى بث مباشر للأقارب والجيران.
ابتعد… ترتَح. كلما ابتعدت قليلًا، صفَت نفسك كثيرًا.

الزواج ليس غرفة مؤتمرات عائلية، ولا مشروع مراقبة جماعية. هو بيت وقلب ومساحة مشتركة بين اثنين فقط. وإن أردت لحياتك الزوجية السكينة، فاختر المسافة الذهبية: قريبًا بما يكفي للاحترام، وبعيدًا بما يكفي للطمأنينة.

وابعد…
نعم، ابعد تحلّا.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد