( وإنِّي مُقيمٌ ما أقامَ عَسِيْبُ )
امرؤالقيس تناقل الرواةُ خبرَ موته ، وأنَّ قبرَه في بلاد الروم بأنقرة التي هي اليوم ضمن بلاد الأتراك في دولةِ تركيا ، وقد ذكر امرؤالقيس دُنُوَّ أجلِهِ عندما سُمَّ ؛ فقال :
أَجارَتَنا إنَّ الخُطُوبَ تنوبُ
..... وإنِّي مُقيمٌ ما أقامَ عَسِيْبُ
أَجَارَتَنا إنَّا غريبانِ ههنا
...... وكُلُّ غريبٍ للغريبِ نَسِيْبُ .
فقد رأى امرؤالقيس قبرَ فتاة غريبة ، فخاطبها خطابَ الجارة ، وأنَّ الجار للجار قريبٌ ومعين !
والذي نريده في هذه المقالة هو تحقيق مكان جبل ( عسيب ) الذي يظنُّ كثيرٌ من المثقفين أنه في بلاد أنقرة وأن قبر امرؤ القيس بجواره اعتمادا على الابيات التي قالها امرؤالقيس آنفا .
قال البغدادي في ( الحاشية على بانت سعاد ) ( 2 / 509 ) :
( قوله: فهو اسمُ جبل دُفِنَ عنده امرؤالقيس ، كذا حكى الصغاني في العُباب ، قال : عسيب جبل ، وقيل : إنَّ امرأالقيس لمَّا سُمَّ ، وأحسَّ بالموت عند هذا الجبل ؛ أمر أن يُدْفَنَ بجنب قبر امرأة غريبة كانت دُفِنَتْ هناك ، وأنشد :
أجارتنا إن الخطوبَ تنوب ...
ولا يَخفى أن امرأالقيس دُفِنَ باجماع الرواةِ في مدينة أنقرة ، ويقال لها الآن : أنكوريِّة ، بعد منصرفه من ملك الروم ، وليس في أنقرة ، ولا في بلاد الروم جبلٌ اسمه عسيب ، إنما قوله : وإني مقيمٌ ما أقام عسيبُ مَثَلٌ ... ) .
قال ياقوت الحموي في ( معجم البلدان ) ( 3 / 329 ) :
( وجبلٌ يُقال له : عسيب ، يُقال : لا أفعلُ ذلك ما أقامَ عسيب ، وله ذِكْرٌ في أخبار امرئ القيس حيث قال :
أجارتنا إنَّ الخطوبَ تنوب ...
وامرؤالقيس بالاجماع مات مسموماً بأنقرةَ في طريق بلد الروم ، وقد ذُكِرَ في أنقرة ) .
وجبلُ عسيب من جبال العرب أي في جزيرتهم التي هي موطِنُهم ، وقد نَصَّ على ذلك ثُلَّةٌ من العلماء :
1 – قال أبو منصور الأزهري في التهذيب : (عسيبٌ جبلٌ بعالية نجد معروف ، يُقال : لا أفعلُ كذا أقامَ عسيبُ ) .
فهذا الجبلُ يُضْرَبُ به المثلُ في البقاء والثبوت .
2 – قال الحازمي في المؤتلف والمختلف في أسماء الأماكن :
( عسيب – بالسين المهملة – جبلٌ حجازي دُفِنَ عنده صخر أخو الخنساء ، قالت الخنساءُ :
أَجَارتَنا لستُ الغداةَ بِظاعنٍ
...... ولكنْ مُقِيْمٌ ما أقامَ عسيبُ ) .
3 – قال الزمخشري في كتاب الأماكن :
( عسيبٌ جبلٌ لهذيل ، وجبلٌ لقريش ، وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : عسيبٌ – بفتح أوَّلِه ، وكسر ثانيه – جبلٌ تقدَّم ذِكْرُهُ ، وتحديدُهُ في رسم البقيع ، وهو في ديار بني سُلُيْم إلى جنب المدينة ، وهناك قبرُ صخر بن عمرو أخي الخنساء ، وهو القائل :
أجارَتَنا لستُ الغداةَ بِظاعِنٍ
..... ولكنْ مُقِيْمٌ ما أقامَ عسيبُ ) .
وعند الحازمي أن قائلة البيت هي الخنساء ، وعند الزمخشري أن القائل هو صخر نفسه !
وقد جاء في ( جمهرة الأمثال ) لأبي هلال العسكري ( 1 / 313 ) قولُ صخر :
( أجارتنا إنَّ الخطوبَ تنوبُ
..... على الناس ، كُلَّ المُخْطِئينَ تُصيبُ
أَجارَتَنا إنْ تَسْأَليني فَإِنَّني
..... مُقِيْمٌ ، لَعَمْري ما أقامَ عسيبُ
كَأَنِّي ، وقد أَدْنَوْا لِحَزِّ شِفَارهم
..... من الصَّبْرِ دامي الصَّفْحَتَيْنِ نَكِيْبُ .
يعني بعيراً أو حماراً . ثم مات ؛ فَدُفِنَ إلى جنب العسيبِ ، وهو جبلٌ بقرب المدينة ، فقبرُهُ هناكَ مُعْلَمٌ ) .
فنخلُصُ أن جبلَ عسيب من جبال العرب في جزيرتِهم وليس في بلاد الروم ، وإنما ذكره امرؤالقيس في سياق المَثَلَ فقط ، وأنَّ الذي مات بالقرب من عسيب هو صخر السُّلمي أخو الخنساء .
والعربُ استعملتْ هذا الجبلَ في ضرب المثل في البقاء وعدم الزوال ، فَكَثُرَ في أشعارِهم وأقوالِهم .