(لتشييك مزارعكم) - علي عبيدات

mainThumb

26-07-2015 05:23 PM

تعرف الثقافة الجدارية بأنها ركن رئيس من أركان الثقافة الشعبية والأدب الشعبي في العديد من البلدان، 
 
ومن هذا ما كتب في التاريخ القديم من أسماء للملوك في بابلو باب الإله، بابل في العراق، وما رمي بين ردهات أهرام الفراعنة وما حفر بين جبال البتراء في عهد الحرير والفأس، ونقوش أم الجمال في المفرق وما ينام في حواضن الكاريبي وحول المايا والأزتك وأوغاريت والأكاديين وحتى ما نراه من بقايا البوشمن والإنسان المنتصب القامة، إلى ما لتلك الكتابات المحفورة في ذاكرة التاريخ.
 
وبهذا، فإن كتابات الجدران في كل عهد وزمان، تشترك بعكس الآخر وكيف يعيش وبماذا يفكر باعتبارها مرآة حال من يحفر وينقش ويكتب ويُسّمِر ويضرب بقلمه أو معوله، وللكتابة على الجدران تاريخ جديد، منها ما تزامن مع الحرابات الطائفية في القرن الثالث الهجري في مصر، عندما كتب على جدران البيوت شتائم لشخصيات دينية عكست خسّة وبشاعة وحال الإنسان الذي عاش في تلك الحقبّة.
 
وتمتد مكانة الكتابات على الجدران حتى تصل لزمن الاستعمار البغيض وما كُتب على جدارن الجزائر وفلسطين وسوريا والعراق ومصر والعديد من الدول التي كانت تثور على الدوام وتؤلب الجماهير بالعبارات النارية التي تكتب في كل مكان ليقرأها الجميع. وكذلك الحال في الثورات والنعرات والحروب العرقية التي حدثت في زمن الثوار الهستيريين مثل غاندي ومارتن لوثر كينج وجيفارا وغيرهم، عندما كانت شذراتهم الثورية مكتوبة على العديد من جدران العالم.
 
على هذا، فالكتابة على الجدران هويّة واسهامات تُحسب لمن كتبوا وعاشوا في عهد تلك الكتابات، وحتى الآن لا تفارق عبارات الجدران الرنانة طوب فلسطين وغيرها من الدول الثائرة على الدوام.
 
في الأردن يهولُّ المرءُ بما يقرأ، فلن ترى إلا بقايا دعاية انتخابيّة قديمة على هامشها ألفاظ بذيئة أو رسومات مشينّة بصبغة نابيّة ومنطق كريه، وفي دنيا التأويل تتسعُ دائرة التخصيص وتتقلصُ دائرة التعميم وفي كلا الحالتين وفق المهنج الذي رأى به المؤل موطئاً للمؤلين في هذا الباب، فأن ترى الألفاظ البذيئة على سور مدرسة أو مركز صحي ينتصف بلدةً ما فهذا يعني أن مريض المركز سيقرأ بعد أن يتعافى من تعليمه المريض في الأصل، فأين الغنيمّة في تكريس وقت وجهد ومخيلّة الطفل المشوّه وهو يرسم عضواً ذكرياً على باب المدرسة؟ وما هي الجهة المُخاطبّة -بالنسبة له- عندما يكتب اسم العضو التناسلي -فقط- على هامش السور وقرب رسم القلب الذي يحيط به حروف اسماء العاشقين بعد أن قرّر أحدهم أن يعلن حبه أمام كلِّ الناس نكاية بالحواجز..؟ وكيف يكون الحب جاراً لكل هذه البذاءة؟.
 
ولو استثنينا هذا الكم المفرط من نقوش ورسومات الأعضاء التناسلية، والتفتنا بشيء من الإيجابية إلى العبارات والشذرات المستوحّاة من الفلسفة الشخصية للكاتب على الجدران، وقلنا أن عبارة حتى هدف حياتي طلع تسلل المكتوبّة على جدران إحدى مدارس محافظة اربد، لعرفنّا موقف هذا الكاتب من الزمن باعتباره يمضي ويتقلب دون أدنى انتصار لهذا الكاتب المشحون بفلسفة الخسارة وبعض الكافكائيات والرؤى السارترية، وهنا ثمّة فكرة يمكن لنا ان نحترمها باعتبارنا خانة التلقي في هذا كله.
 
يلحُّ سؤال مهم في هذا الصدد، وهو كيف استطاع هذا الواعد عمراً ونضجاً أن يصدر مثل هذه التصريحات ملخصاً فيها مسار حياته ونصيبه غير المقبول به من هذه الحياة وهو في هذا العمر؟ وماذا سيقول مثل هذا بعد سنوات أخرى بمعيّة معترك الحياة المتوالي؟ فهذا الموقف الصارخ ينوّه إلى عشرات الرؤى والتأويلات، فهذا الساخط لا يشعر بالسعادة وفي أعماقه غول أجبره على تناسي كل المارة والوقوف أمام جدار وكتابة العبارات على وجهه كأنه حائط مبكّاه ومنبرّه الذي لا يشاركه فيه أحد، جهاراً نهاراً.
 
كأن الكون نضبَّ من المستمعين وآن أوان الجدران المُصيخّة لكل مستاء، وكأن الجدار أصدق ما يمكن أن يجعل منه المرء نائباً له وممثلاً لرؤاه وواسطّة بين الخطاب والمتلقي، إنه الجدار، صخر في أصله وعبد لذوي اللحم والشحم والعقل، وهو مرآة حال كل من فقأ الكون عين تعايشه مع الآخرين (الكائنات الحيّة). والجدار في الأردن ليس ثورياً ربما لأننا لم نخض تجربة الاستعمار، وليس مناهضاً لأننا نعمل في دولة بمثابة جهاز أمني كبير، وهي مكان للإعلانات (لتشييك مزارعكم مثلاً) وقبّة الشعارات الانتخابية، وبالكاد رسالة حجريّة حفرها عاشق يصرخ في وجه الكون ليرى اسمه لصيقاً باسم من يهوى.
 
حبٌ بنكهة الصخر، ودعايّة انتخابية تذكر العامة بملامح فلان وهو يظهر في الصورة المعلقة على الجدار بنصف وجه، أو بوجه مشوّه مر أحد الصبية به ومزق عينه الورقية، فحتى الصخر لا يعبر عن هويّة... هنا.
 
 
*شاعر ومترجم من الأردن.


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد