الأقلام التي كتبت في أسباب ومجريات الربيع العربي خرجت لنا بقراءآت وإستنتاجات كثيرة ومنها :
ـ أنه ثورة عفوية وطبيعية لشعوب عربية عانت الكبت والقهر والمرارة ، وعانت كل أنواع البطش والظلم والقمع والتهميش من أنظمتها القمعية ، واعتبروه ردة الفعل الطبيعية على الاستبداد والظلم والضيم ، ولا دخل للاستعمار في أسبابة ومجرياته .
ـ ومنهم من قال : بأنه النسخة المطورة لخطة الفوضى الخلاقة الأمريكية ، والتي جربها الإحتلال الأمريكي في العراق ؛ ويجزم هؤلاء : بأن الربيع العربي ؛ هو من ألفه وحتى ياءه ؛ كان ولم يزل لعبة إستعمارية ويهودية قذرة بدماء ومصير أمتنا العرببة .
ـ ومنهم من قال : بأن بدايات الربيع العربي كانت عفوية وتلقائية وفاجئت كل العالم ، ولكن هذه العفوية والتلقائية لم تعمر طويلا” ، فسرعان ما ركب الاستعمار اللعين موجات ربيعنا العربي ، وتلاعب في مساره ووجه للمخرجات التي تلبي مصالحه وأهواءه ... ومنهم من قال غير ذلك .
ولكن رغم إختلاف القراءآت والتفسيرات والإستنتاجات والتأويلات حول ربيعنا العربي ، فهي متفقة تقريبا” على حقيقتين وهما :
ـ حقيقة المعاناة الكبيرة لشعوبنا العربية قبل الثورات ، وهي المعاناة التي دفعت بشعوبنا العربية للثورة على أنظمتها الإستبدادية والقمعية والتسلطية .
ـ أما الحقيقة الثانية فتتلخص في الوجود القوي والخفي لليد الإستعمارية في بلادنا العربية ، والتي مكنت الاستعمار من التلاعب في مجريات ااربيع العربي بعد إستتفاره لكل قواه وتحريكه لكل أدواته بهدف إفشال الربيع العربي بعد ركوب موجاته .
وهاتان الحقيقتان لا يمكن لعاقل„ إغفالهما ، فمعاناة شعوبنا العربية الثائرة تكذب قول المرجفين والذين دأبوا على لوم الشعوب العربية الثائرة بقولهم باستهجان : لما ثارت ؟
ويتناسى هؤلاء بأن أبسط المسلمات الفيزيائية تقول : أن الضغط القوي سيولد الإنفجار ... والشعوب العربية عانت كل أنواع الظلم والاستبداد والقهر قبل الثورات إلى أن استوى عندها الموت والحياة والوجود والا وجود ، كما أن الشعوب العربية ليست إستثناء” أو طفرة” في ثوراتها ؛ فشعوب كثيرة في هذا العالم سبقت شعوبنا العربية وثارت على الاستبداد وعلى الديكتاتوريات ؛ ونتذكر مثلا” ؛ ثورة شعوب أوروبا الشرقية على الحكام الشيوعيين في آواخر ثمانينات القرن الماضي ، حتى نالت حرياتها وحققت أهدافها ، ونتذكر ثورة الشعب الروماني والذي ضحي بعشرات الآلاف في سبيل الإطاحة بالدكتاتور الشيوعي : نيكولاي تشاوشسكو . ونتذكر ثورات مماثلة لشعوب من أمريكيا اللاتينية كالثورة المكسيكية ، وثورات أخرى لشعوب آسيوية ...
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه دائما” هو : لماذا يضع الكثيرون اللوم على شعوبنا العربية حين ثارت على الظلم والإستبداد ؟ علما” أن الثورات العربية لم تبتعد عن أبسط قوانين الكون والطبيعة ، كما أن الثورات العربية التمست خطاها من ثورات كثيرة في هذا العالم ؟ .... والسؤال الآخر هو : لماذا نجحت ثورات الآخرين وأخفقت أغلب ثوراتنا العربية في تحقيق أهدافها ؟؟؟
قد يقول قائل : إن سبب الإخفاق العربي يكمن في قلة الخبرات وإنعدام القيادات ، أو أن سبب الإخفاقات في قلة التخطيط وانعدام الرؤيا الواضحة للثورات أو ... ؛ ومهما قيل فكلها عوامل مساهمة في الإخفاقات ، ولكن العامل الرئيسي للإخفاقات في ثوراتنا العربية فهو الاستعمار البغيض ؛ والذي وقف تحايل واتقلب على كل النجاحات التي حققتها ثوراتنا العربية في بعض الدول العربية وجاهد لإفشالها في دول عربية أخرى ؛ وهذا هو نفس الإستعمار الذي دعم ثورات أوروبا الشرقية ضد الشيوعيين ، ونفس الإستعمار الذي التزم الحياد في ثورات أمريكيا اللاتينة ، ونفس الاستعمار الذي دعم ثورات الشعوب الآسيوية ... ولكنه عند ثوراتنا العربية وقف عقبة” كؤودا” أمام نجاحها في بلوغ أهدافها ، وساند الطغاة والديكتاتوريين ؛ وجرم الثائرين ووصفهم بعضهم بالغوغاء وبعضهم بالإرهابيين .
إن الإستعمار اللعين الذي منحنا الإستقلال الظاهري فقط ، ودمر العراق العربي دون رحمة ، والإستعمار الذي حارب كل مشاريعنا الوحدوية ؛ لا يريد حريتنا ، والاستعمار الذي كرس الفرقة بيننا ، وبث الخلافات واثار التعرات بين شعوبنا العربية الواحدة لا يربد نهضتنا ، وهذا الإستعمار الذي غرس بينتا الكيان الاسرائيلي وسوق لوجوده بالقول : ( الكيان اليهودي هو واحة الحرية ، ومنارة الديمقراطية الوحيدة بين كل الكيانات العربية المتخلفة والهزيلة ) لا يريد حريتتا ولا ديمقراطيتنا ... وهذا الإستعمار الذي درج على إبتلاع ثروات وخيرات أمتنا العربية دون مساءلة ، وتعهد بحماية ودعم إسرائيل لن يقبل أبدا” بثوراتنا العربية التي ستهدد مصالحه وستطيح بمشاريعه المشبوهة في منطقتنا العربية ...
بعض المرجفين يكررون لومهم لثوراتنا العربية بالقول : إن الشعوب العربية تعشق الفوضى والعبث ، ولا تقدر العواقب جيدا” ، وتضحي بالأمن والأمان لصالح شعاراتها الجوفاء و ... ، وليصلوا أخيرا” إلى القول : أنظروا لثمرات ربيعكم العربي ؛ الإقتتال والفرقة والتناحر والتشرد والضياع و ...
مثل هذه الأقوال تدلل على قصور كبير في الفهم والاستيعاب لحقيقة ما جرى ؛ مثل هذه التحليلات والتي يتظاهر مرددوها بالإتزان والواقعية ، تمثل قفزة مقصودة على الألم والمعاناة الكبيرة لشعوب العربية الثائرة ، وهي اهمال متعمد للمسببات بالتركيز المتعمد على النتائح والتي شوهتها الأيادي الاستعمارية ؛ وهي محاولات من قبل البعض لتشريع الخنوع والإستسلام الأبدي للطغاة وللمستبدين ، في حالة إمتلاكهم للقوة ؛ ووصل الإمر ببعض من المرجفين حث الناس على القبول بالإحتلال اليهودي لفلسطين ، وحث الناس على القبول بكل إحتلال„ قادته دولة قوية لأرضنا العربية ؛ وبحجة الحكمة والتعقل والواقعية ... وسمعنا مثل هذه الدعوات المرجفة من كثيرين في عالمنا العربي الكبير ، وأنا أتذكر أحد علماء السنة العراقيين يوم عاد من غربته غداة سقوط بغداد بيد الأمريكان ، فخطب في أحد مساجد الفلوجة قائلا” : إن الولايات المتحدة هي دولة عظمى وقوية ، وهي تريد منا النفط ونحن نريد الحياة ، فلنعطيها النفط الذي تريده لكي نهنأ بالأمن وبالحياة !!! فقال له رجال الأنبار وأبطالها الأشداء : إرجع من حيث أتبت ... فلا حياة مع ذل الإحتلال في عراق العزة والمجد !!! وأعلنوها مقاومة” شرسة وجهاد حسيني مقدس ، حتى خرج المحتل الأمريكي من بلد الرشيد ذليلا” وصاغرا” في عام ٢٠٠٩ م .
إن الشعوب العربية التي ثارت على الإستبداد حققت النجاحات المطلوبة في الحلقة الأولى للثورة ، وأسقطت الديكتاتوريات المنصبة من قبل الإستعمار في بلادنا ؛ ولكن هذه الشعوب العربية أخفقت ؛ وإلى الآن ؛ في مواجهتها المباشرة مع الإستعمار ، والذي ألقى بكل ثقله وقواه لكسر إرادة الحياة عند الشعوب العربية ؛ ونجح في حرف ربيع العرب عن وجهته الأصلية ؛ كما نجح في التشويش على الأهداف المرسومة للثائرين ، ونجح في تحجيم الثورات وحصر مطالبها بتحقيق الأمن ومقاومة الإرهاب .
دعم الإستعمار كل الثورات المضادة والمنقلبة على ثورات ربيعنا العربي ، وأخرج كل أوراق لعبه ، وأطلق العنان لأحصنته البيضاء والسوداء ، في محاولة منه لقلب الموازيين ولتشتيت جهد الثورة ولحرف البوصلة ...
وفي الحالة السورية حصر أهدافه بتوفير الأمن والأمان للكيان اليهودي ، وعمل على تحقيقها من خلال : تدميره لكل أسلحة الدمار الشامل السورية ؛ وسعى ألإستعمار لتفتيت سوريا العرببة لدويلات ولكنتونات متباغضة ومتناحرة ، لتتسيد اسرائيل المنطقة العربية في نهاية الأمر ، وهي السياسة المشابهة لما جرى وما زال بجري في العراق ، حين دمروا اسلحة الدمار الشامل العراقية ، ثم عمدوا لتفتيت العراق إلى دويلات متباغضة ومتناحرة : ( كردية ؛ شيعية ؛ عربية ؛ يزيدية ) ....
سيبقى الإستعمار البغيض غصة” دائمة” في حلوق أمتنا العربية ، وسيبقى شوكة” دامية” في عيون أمتنا الأبية ... ففي المفهوم الإستعماري ؛ ممنوع على أمة العرب أن تتنفس الحرية ولو لمرة واحدة في حياتها ؛ لإن أنفاس الحرية ستوحد هذه الأمة ، وأنفاس الحرية ستعيد أمجاد هذه الأمة وستجعلها قوية” ومهابة” بين الأمم ، كما أن الحرية والديمقراطية ستعيد لتا ثرواتنا المنهوبة وستعيد لنا قدسنا السليبة ... ولذلك تصدى المستعمرون لكل ثوراتنا العربية التي طالبت بالحرية والديمقراطية وبحقوق الإنسان ، حتى قمعوها بالمكر والحيلة أو بالقوة ...