دواعش تحت ستار العلمانية

mainThumb

21-05-2016 11:29 AM

لقد اصبح متداولا استخدام كلمة "دواعش" للدلالة على الاشخاص الذين يطرحون رأيا ويرفضون غيره من الاراء ويمارسون إقصاء الآخر وتسفيه شخصه دون رأيه مستخدمين ما استطاعوا من وسائل واساليب.
هذا النوع من البشر وجد في المجتمعات حيث وجد الظلم وانتشر حيث ضعُف دور العقل. ولقد تم استخدامهم على مدى التاريخ من قبل الفئات المهيمنة، وساعدهم على القيام بهذا الدور صفة تجمعهم، انهم يسهل عليهم الشعور بالتناقض، لذلك هم دائما اداة للقوى المتسلطة. فكانوا سببا للعديد من المصائب التي حلت على الامم. فالتعنت الفكري ورفض الآخر يهدف في نهاية المطاف الى طمس فكرته وحجته التي يعبر عنها برأيه. هذه خسارة كبيرة قاتلة لفرص الاصلاح وتصحيح المسار، تجعل الفئات المهيمنة مستمرة في توجهاتها دون محاسب. عندما يلجأ هؤلاء للاقصاء لا يبقى مكان للعقل، فلا يحصل النقاش العقلاني والصراع الفكري المنتج بين اصحاب الافكار المختلفة المتباينة، ولا يحدث التغيير المثمر على اثره. وتبقى السفينة سائرة في اتجاهات خاطئة دون ازعاج.

ولا اجد مثالا أكثر تجسيدا من الحديث الشريف المعروف بحديث السفينة، فهو يحاكي مثالا من الواقع. فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ, فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلَاهَا, وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا, فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِن الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ, فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا, فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا, وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا)رواه البخاري. في هذا المثال يوجد رأي يرى مصلحة في ثقب السفينة وآخر يرى الهلاك في ذلك، فلولا ان اصحاب الثقب أصغوا بآذانهم وناقشوا بعقولهم لرأي من فوقهم لفعلوا ما ارادوا في نصيبهم، وغرقت السفينة بمن عليها. ولكن العقل السليم والفطرة السوية ترفض الإقصاء والتسخيف، وتقبل الرأي الآخر كفكرة مجردة، قابلة للنقاش والاخذ والرد بعرضها على العقل. فقبول الفكرة لا يعني بالضرورة الاقرار بها، بل إن طريقة التفكير العقلية في التعاطي مع الافكار قد تكون اشد على الفكرة لا على صاحبها. فبالنظر للفكرة ووزنها وتقييمها ودراستها يتشكل الحكم عليها بالاقرار او الرد بمنهج عقلي راق يستفيد منه المجتمع. فكم من الخير ضائع وكم من الشر مستقر، بسبب الاقصاء الفكري.

إن الناظر الى واقعنا في الاردن وواقع الامة اليوم يرى بوضوح الحالة التي وصلنا اليها من ضعف وانحدار وضياع للحقوق وفوقه ارتهان للاعداء، وانجرار خلف المخططات والمؤامرات. فيكاد صوت الحق لا يسمع من شدة التشويش، فكيف سيُسمع بدون إصغاء؟ وكم من قضايانا التي تحتاج الى الانصات، وكم من التوجهات بحاجة الى تصحيح مسار، وكم من القرارات التي تحتاج الى اتخاذ، حتى يصل هذا المجتمع الى ما ينبغي ان يكون عليه. وكم من ثعلب بيننا يتربص ضحيته، وكم من أسد غافل في مجتمعنا. فهل حالنا هذا يحتاج الى المزيد من الاصغاء ام الاقصاء؟ هل نواري على الثعلب المتربص ونُشغل الاسد الغافل بقمع المزيد من الاصوات والآراء؟

في ظل هذه الظروف يخرج علينا الاقصائيون بعباءة المدنية والعلمانية، مشككين بافكار الاسلام التي تخالف معتقداتهم، ويطلبون من المسلمين ان يتقبلوا هذا النقض باسم تقبل الاخر من جهة، ومن جهة اخرى بتخويفهم بشبهة مؤازرة تيارات ارهابية! ولو توقف الامر هنا لما كتبت في هذا الموضوع، لثقتي بقوة بالاسلام ورسوخ افكاره، ووهن الافكار المخالفة له، إذا ما وضعت في ميزان العقل.

الا انه تعداه الى توزيع الاتهامات بالجمله لكل من تجرأ على الذات العلمانية والفكرة المدنية، وكل من يرمق فكرة فصل الدين عن الحياة بنظرة سوء، فله من التهم ما يكفي لتصنيفه في خانة الاصولية والتخلف والتطرف! وازدادوا انحطاطا فاستخدموا اسلوب "التهويش" الرخيص الذي استخدمه امثالهم في غابر الزمان، كما ذكرت الاية الكريمة على لسان قوم لوط: ( فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ). اتعجب عندما يعتبر احد العلمانيين ان افكار بناء المجتمع الاسلامي افكارا ظلامية، ثم يدعو الدولة لمنع كل من لا يقبل بالفكرة المدنية العلمانية، فهل يريد اقصاء المجتمع باكمله؟ ام انه لا يدرك انه مازال يعيش بين شعوب مسلمة؟ لو ادرك ذلك لسهل عليه فهم إعراض هذه الشعوب عن فكرته وعجزه عن اقناعها بان فكرته المدنية التي تؤكد على انه لا يحق لله تعالى ان يفرض على الناس نظاما ينظم به شؤونهم بصفته خالقهم. ولربما ترك اسلوب "التشبيح" ضد كل من تسول له نفسه المساس بالذات العلمانية ولو كانت دعوته سلمية عقلية مشروعه.

لقد اتخذت قريش من قبل هذا الاسلوب ايضا فاعرضوا عن الاصغاء لما يتلوه عليهم محمد صلى الله عليه وسلم من آيات القرآن الكريم، فلم يحاولوا ان يفهموا آياته التي نزلت فصيحة بلغتهم، فيُعملوا فيها عقولهم. بل استسهلوا طريق التكذيب والاتهام. ولما تحداهم الاسلام فكريا وبيانيا عجزوا عن مواجهته بالفكر والبيان فلم يجدوا الا الاقصاء والتشبيح، فاتهموه اتهامات باطلة وحاصروه وقاتلوه. ان العقل السليم يقول ان الاولى بهم إن كانوا صادقين ان يأتوا بعشر سور من مثله حين تحدّاهم فيبطلوا بهن دعوته وسينتهي الامر!

فالاولى بهؤلاء المتلحفين بستار العلمانية ان يفتحوا عقولهم ويقبلوا على انفسم ما يطلبونه من غيرهم، عليهم ان يفهموا ان افكارهم ليس لها جذور في هذه الامة، وان محاولاتهم لمصادرة حقوق الناس في التعبير عن رأيهم بالعلمانيه واخواتها من خلال اتهامهم بالظلامية والتطرف، يظهر فيها العجز والقصور عن مواجهة الفكر بالفكر. إذا فلتأتوا بسورة مثله لنتبعكم ونتبع مبدأكم إن كنتم صادقين.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد