المواصلات البحرية زمن الملك حدد بن بدد

mainThumb

05-04-2019 06:59 AM

 الحلقة الثانية عشرة 

  نجد في سورة الكهف ان سيدنا موسى وسيدنا الخضر عليهما السلام ركبا في السفينة وهي سفينة ركاب بالأجرة، وأنها وقفت في المرسى المخصص للركاب عند مجمع البحرين وهو التقاء ذراعي البحر الأحمر المتفرعة الى العقبة والذراع الأخر الى السويس، وكان ذلك زمن الملك حدد بن بدد مدار حديثنا الان. (فَانطَلَقَا حَتَّىٰ إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا ۖ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) سورة الكهف. 
ومثل هذا النص الكريم يبين انه كانت هناك وسيلة نقل بحرية وأنها تتحرك من قرية الى أخرى على ساحل البحر الأحمر وبالذات على ذراع العقبة، حيث حطوا رحالهم في قرية وجدوا فيها غلاما فقتله الخضر، ثم ركبوا سفينة اخر باتجاه القرية التي استطعما أهلها فأبوا ان يضيفوهما.
 
    ومن خلال قول الخضر انه طلب الى موسى الا يسأله شيئا مما سيفعله الا بعد ان يخبره به الخضر عليهما السلام. وهذا التنقل في كل مرحلة دلت عليه الكلمة ( فانطلقا ) في مطلع كل تصرف او الشروع في مواصلة المسيرة ,  او الانتقال الى مرحلة أخرى . قال تعالى : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّىٰ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) سورة الكهف .
 
 فالشرط الأساس للرفقة والمصاحبة بينهما الا يقوم موسى بالسؤال او الاعتراض او الاستنكار على أي فعل يفعله الخضر الا بعد ان يخبره الخضر بذلك، وهذا يبين كثرة القرى القائمة على الشاطئ وانهم يصلون اليها كما سائر أهلها عبر السفن. وان هذه السفن تنقل الناس عبر قناة البحرين قناة حدد بن بدد الواصلة بين خليج ايلة / العقبة وغور واعماق وادي عربة والبحر الميت.
 
 ومن خلال النص الكريم نجد استهلاله بكلمة (فانطلقا) عند كل مرة وهي تعني انهما ركبا في سفينة بحرية أخرى، ونحن يهمنا ان هناك قوارب لنقل الركاب بالأجرة. ومنها نستطيع القول ان النقود الفرعونية كانت مقبولة ودارجة في بلاد ادوم بسبب التحالف بين الملكين من جهة ولأنها من المعادن الثمينة واغلبها من الذهب والفضة من جهة أخرى. وانهم دفعوا من هذه النقود اجرة ركوبهم.
 
 ومن الواضح بالنسبة لي ان قناة حدد بن بدد المائية التي تربط البحر الاحمر بالبحر الميت، استمرت فاعلة وصالحة لقرون عديدة بعد الملك حدد، وبقيت الى القرن العاشر قبل الميلاد، أي زمن سليمان عليه السلام وأنها كانت منذ البداية مصدرا لصيد السمك أيضا للاستهلاك المحلي والتجفيف والتصدير مجففا واعلافا للمواشي في وقت شح الأعلاف والكلأ، وجفاف المراعي، حيث تأتي الأسماك من أعماق البحر الأحمر للانتشار في هذه القناة.
 
  وكان الادوميون يحفرون احواضا جانبية متفرعة من قناة حدد بن بدد، للإيقاع بالسمك وسهولة صيده. وقد بقيت هذه العادة الى ما بعد عصر سيدنا سليمان عليه السلام أي بعد أكثر من ثلاثة قرون من فتحها زمن الملك حدد ومن سبقه. حيث نهى الله سبحانه عن صيده بهذه الطريقة، ولكن اليهود استمروا وأصروا على الاستمرار بطريقة الصيد هذه فمسخهم الله سبحانه الى قردة وخنازير 
 حيث حرم الله سبحانه على اهل إيله بعد اعتناقهم اليهودية   صيد السمك ايام السبت وسمح لهم بصيده بقية أيام الأسبوع. قال تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) سورة الأعراف. 
اذ ان القرية( وكانت مدينة , من حيث الحجم والإمكانات والبنية التحتية )  وهي أيلة او عصيون جابر كانت قريبة من شاطئي البحر وكانت قناة البحرين  تمر بجانبها وورث أهلها عن الأجيال السالفة صيد السمك بالأحواض الجانبية التي يحفرونها بجانب قناة حدد بن بدد، واليها يدخل السمك، ثم يغلقون عليه الطريق بواسطة التراب او الرمل او الحجارة او الاخشاب او الشباك او ما الى ذلك، بما يمنع السمك من العودة الى القناة والبحر، ولكن الله سبحانه ابتلاهم ان ضيق على اهل القرية بعد اعتناقهم لليهودية، بان حرم عليهم صيد السمك برمته يوم السبت كما هو واضح في الآية الكريمة أعلاه ومسخهم عندما تحايلوا على الامر الإلهي بعمل الحفر الجانبية .
     واذا كان كثير من ملوك العراق ومصر القدامى قد ادعوا الالوهية او انهم  ظل الله في الأرض منذ زمن النمرود الذي قال لإبراهيم عليه السلام انا احيي واميت,  وبما فيهم المنصور وهو عباسي مسلم ولد وتربى بالأردن الذي قال انه ظل الله في الأرض ,  فان أيا من ملوك الأردن القدماء لم يدعي الألوهية اطلاقا عبر التاريخ , والسبب ان المجتمع الأردني هو مجتمع الانداد واقرب الى البداوة وقائم على نظام  العشيرة أساسا , والتي ترى في زعيمها ما يستحق التبجيل والطاعة وليس ما يستحق العبادة والعبودية له , مع وضوح الفرق بين العبادة والتبجيل , وانه شيخ او ملك ولكن ليس الاها يعبد من دون الله سبحانه وأن مجتمعهم هو مجتمع الانداد والاكفاء والمساواة القائم على المبادئ الأردنية : ( مثل ما تراني يا قبيلي أراك , ما فيه أحد أحسن من أحد ) .
    لذا اتخذوا الاصنام الهة ولم يتخذوا الملوك الهة، فالأصنام ليست من جنس البشر بل مخلوقات من التراب والصخر، وكل يصنع او يعبد صنما على هواه وراحة نفسه. اما وادي النيل وما بين النهرين، فقد كانوا شعوبا مستقرة واهل حضارة مبنية من الحجر والطين، ومن طبعهم الخضوع والخنوع للسلطة لتعلق حاجاتهم واعمالهم بالسلطة، وما يتعرضون له من طوفان واحتلال من قوى خارجية، وبالتالي لا بد من اللجوء الى الالهة للتغلب على الأعداء، وحفظ المنجزات الحضارية، فادعى ملوكهم الالوهية، ليحلوا مكان الهة السماء. وفرضوا ربوبيتهم على الشعوب المستقرة فخضعت طوعا او كرها. 
  من هنا كان حدد يرفض الايمان العلني بالله سبحانه وان كنا لا نعرف حقيقة عقليته وان كان يعرف التوحيد ويعطي الموحدين حرية العبادة والممارسة الدينية بدون مضايقة على عقيدتهم، لكنه كان يعرف دين التوحيد، ويعرف أيضا انه إذا تحول الى إله يعبد من دون الله فسيكون مصيره الغرق والخزي، وبالتالي كان يرفض ان ينصب نفسه الها كما الفرعون. خوفا من الخزي والغرق، لأنه كان يعرف ان اعلان الالوهية فان مصيره كما كان مصير فرعون، وهو ما لم يكن يرغبه لبشاعة ذلك المصير.
ثم يأتي العنوان السياسي وهو متغير حسب الأزمنة والامكنة والقيادات المتعقبة والظروف الداخلية والخارجية، فقد يكون العنوان السياسي امارة او مملكة او سلطنة او مشيخة او جمهورية او امبراطورية للوطن الواحد او البلد الواحد، وقد يتحول الشيخ الى امير ثم الى ملك او سلطان ثم الى إمبراطور، ويوحد أجزاء البلاد والشعوب التي تعيش عليها ويصبح لكل هذه الأجزاء اسما جديدا أي عنوانا سياسيا جديدا قد يتفق او يختلف عن أي من العناوين الفرعية , وقد يطغى عنوان فرعي على سائر العناوين مثل إقليم فارس الذي هيمن على اقطار أخرى وصارت بلاد فارس وهي لم تكن كذلك . اذن قد يتفق او يختلف العنوان الجديد مع العنوان السابق او مع عنوان أحد الاقاليم او العائلات او الأشخاص، وعادة ما يصبح اسم أحد الأقاليم او العائلات عنوانا للكيان الجديد، حيث تجري تسمية اسم او عنوان على الكيان السياسي والعنوان السياسي الجديد
  وبالتالي فان الكيان السياسي لا بد له من عنوان وهو نمط الحكم والنظام الحاكم مملكة او امارة او مشيخة او سلطنة او امبراطورية او جمهورية او اتحاد ممالك او اتحاد جمهوريات،) ملكا او اميرا او شيخا او سلطانا او امبراطورا او رئيس جمهورية او رئيس اتحاد كونفدرالي او رئيس ولايات ) وقد كانت الامارات والممالك الأردنية متعددة، أي تعدد الكيانات السياسية والعناوين السياسية الفرعية ضمن كيان جغرافي واجتماعي واحد عام وهو الأردن واهل الأردن والهوية الأردنية العامة التي تشتمل هويات محلية حسب الممالك التي تكون الكيان الأردني. وان الكيان السياسي يعني الهوية السياسية او المواطنة المرتبطة بنوع العنوان السياسي. 
  لقد كانت هناك ممالك اردنية وهم :  الحوريون  والادوميون والمؤابيون والباشانيون والثموديون واللحيانيون والمديانيون والحشبوسيون والاراميون والانباط والغساسنة والضجعميون ,   وغيرهم من قبل ومن بعد على الأرض الأردنية على سعتها وامتدادها , ولكنهم جميعا كانوا ضمن كيان جغرافي واحد وهو الأردن، وضمن كيان اجتماعي ثقافي واحد وهو الكيان الثمودي أي الشعب الثمودي، وضمن كيان وطني وهو الاتحاد ضد أي عدو خارجي او احتلال او خطر محدق بهم او باي منهم، حيث يقفون معا كشعب واحد ودولة واحدة باستثناء حالات عابرة من العداوة البينية وهو امر يحصل في كل شعب ودولة ونظام سياسي.
    ذلك ان جميع سكان الأردن واهله آنذاك كانوا ثموديين / عرب، من الامة الثمودية الأردنية وهم عرب اقحاح، ولهم هوية واحدة وثقافة واحدة ومصير واحد، ونزل فيهم العديد من الانبياء مثل سيدنا صالح وسيدنا شعيب عليهم الصلاة والسلام وغيرهم ممن أشار إليهم القران الكريم بالرسل بدون ذكر أسمائهم، فضلا عن لوط ويحي (وعيسى وزكريا والياس الذين لهم علاقة بالأردن رغم انهم ليسوا من الشعب الاردني) وايوب وبلعام وذي الكفل ولقمان عليهم السلام جميعا.  
 قامت الدولة الأدومية الثمودية الأردنية على تضاريس متنوعة من بحر وبر ومن بادية وصحراء ومن جبل ووديان ومن غور ونجود (مفردها نجد) وكانت معرضة للهجوم من سائر الجهات، لأنها تحتل مكانا استراتيجيا من جهة، ولأنها ارض طيبة يطمع بها من يراها او يسمع بها، ولأنها ممر العابرين والقوافل، ووطن الاقوام الذين عصوا الرسل فخسف الله بهم الأرض.
   ففي البحر قد تأتي جيوش غازية من قريب ومن بعيد، وبالتالي أدرك الملك حدد بن بدد أهمية الاسطول البحري لغايات التجارة والحماية العسكرية ونقل الناس كوسائل مواصلات، فعزز الاسطول وحرم البحر على اية سفينة غريبة، وصادر كل سفينة صالحة (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا) وبذلك صار البحر امنا. حيث سنشرح ذلك لاحقا في هذا البحث بعون الله تعالى. وكانت قوارب الملك حدد بن بدد تجوب البحر الميت أيضا لاستخراج الملح والقطران والاسفلت للاستخدام المحلي وللتصدير الى مصر وأوروبا.
 واما الجبهة المصرية الفرعونية فقد كانت صديقة وحليفة ورديفة للجبهة الأردنية الأدومية، بسبب تعزيز التحالف مع الفراعنة وازداد التحالف وتم تعزيزه بقوة زمن الملك حدد أكثر ممن سواه من قبله ومن بعده. واما الجبهة الجنوبية فكانت مملكة المديانيين التي كانت ضمن الدولة الأدومية ولكنها كانت نزاعة وتواقة دوما للاستقلال عن ادوم رغم انهم جميعا من ثمود وكلهم من الممالك الأردنية.
وقد كانت مدين في صراع مع ادوم رغم انهما اردنيان ومن ثمود، واستمر هذا الصراع سنوات طويلة منذ زمن الملوك الذي سبقوا حدد بن بدد واستطاع سلفه حشام ان يقمعهم ويضمهم الى دولة الأدوميين ضمن حكم ذاتي مع احتفاظهم بهويتهم المحلية ضمن إطار الدولة الأدومية الكبيرة، وكل ذلك كان على غير رغبة من المديانيين، بل وعلى مضض. وكانوا قوما نزاعين للاستقلال والناي بالنفس عن الاتحاد مع اية مملكة ثمودية أخرى.  
واما الجبهة الغربية فقد كان لها ترتيب وشان خاصين. حيث كانت منطقة ساحل البحر الأبيض المتوسط تحت السيطرة المشتركة بين الفراعنة وحلفائهم الأدوميين، في حالة امنية وعسكرية وسياسية تخدم الجميع وتحمي الجميع.  وكان السكان وهم أدوميون ومعهم خليط من المصريين والكنعانيين يعتبرون من رعايا الفرعون والملك حدد في الان نفسه، في ازدواج في الهوية السياسية وليس الاجتماعية، وكانوا منطقة تلاقي الهويتين السياسية والاجتماعية والأمنية. حيث الحماية مرتبطة بفرعون والحياة الاجتماعية والاقتصادية مرتبطة بالأدوميين والملك حدد، وشكلوا ازدواجية الهوية السياسية والأمنية والعسكرية، وهي حالة نادرة في التاريخ، وان كانوا أصحاب كيان اجتماعي واحد وكيان جغرافي واحد وهو الوطن الأدومي الثمودي الأردني. وبالتالي على عداء مع بني إسرائيل.  وانهم انضموا كشعب وارض بالكامل الى المملكة الأدومية زمن الملك حدد بن بدد، بعد غرق الفرعون وهو يطارد بني إسرائيل.   ( وللحديث بقية ان شاء الله )
 


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد