في بيتنا صائم

mainThumb

22-08-2009 12:00 AM

أصبح يتقلب في فراشه، يتململ.. ينام دقائق على جنبه الأيمن ثم الأيسر، ينكفئ على وجهه دقائق ثم يستلقي على ظهره ويضع كفيه خلف رأسه، يحدق بعينين مرهقتين في السقف ثم الى ساعة يده ويطلق نفثة طويلة.. متى سينتهي هذا اليوم؟.

مر أطفاله من أمام غرفته رأوه من فتحة صغيرة للباب وقد جلس محتضنا لحافه منفوش الشعر، نبت شعر وجهه وتجهم ، أسرعوا الى الخروج، لو رآهم لفعل بهم الأفاعيل، كيف يجيئون ويروحون وهو صائم!.

في البيت صائم.. تمشي به الثواني كمشية حرباء تتأمل، تمشي خطوتين وتقف، أغلق فمه على حرف الميم وراح يردد في داخله "صائم صائم صائم"، الكل في البيت يتحاشاه لا يقترب من حجرته، الكلام في البيت أقرب الى الوشوشة، فإذا ارتفع صوت طفل عن براءة ينبعث صوت أجش من ذات الغرفة: "سكّتوا الولد" ويسود صمت ممل ويبدأ التخاطب بالهمس والإشارات.

يمضي ساعات الصباح الى الظهر في غرفة نومه، فإذا تحرك وذهب الى الجامع تعود الحياة الى البيت كأنما عاد له التيار بعد انقطاع! يمشي الى المسجد كسحابة في صيف ساكن، لا يفكر إلا بالصوم! كيف أجلس وأنا صائم؟ كيف أكلم الناس وأنا صائم؟ كيف أعمل وأنا صائم... ثم يصلي وهو صائم ويعود أدراجه الى البيت، فما أن يدير قفل الباب حتى ينقطع التيار ويبدأ الهمس، فيعود الى فراشه إذ كيف سينتهي اليوم إلا بالنوم..

يعيد في الثلث الثاني ما بدأه في الثلث الأول من النهار: تقلّب.. انكفاء.. استلقاء.. جلوس.. نزق.. تأفف.. ولا شيء غير الصمت يسود في البيت، ثم يعود التيار بعد الأذان والسحابة تنقشع.

في الثلث الثالث، البيت مختلف تتفشى به الحياة ويعج بالروائح، العمل على قدم وساق يسابق الشمس الى مغيبها!.. في هذا الجو لا يستطيع الصائم الوحيد مقاومة هذه الأجواء، فيغادر الى السوق مقطب الجبين يبحث عن أشياء يضيفها الى مائدة الإفطار، ويدخل في زحمة السوق يزاحم ويشاتم وينظر في الوجوه نظرة أقرب الى الغل والحقد كيف يقفون في طريقه، وهو صائم!.. الطوابير على الأشياء الطازجة تملأ صدره غلا..الواقفون أمامه أشجار يجب أن تحرق.. الطابور أطول من يوم الصوم، يزيد انفعاله إذا رأى أحدهم يكثر الشراء يوسعه سبا على طريقة الغمغمة حتى ليحسبه المجاورون استغفارا..

يعود مع الغروب.. يدخل البيت وهو يتأفف من طريقة الشيخ البطيئة في قراءة القرآن قبل أذان المغرب، كأنه يصمت شهرا بين الآية والأخرى... يبقى الشيخ يعد عليه الثواني قبل الأذان حتى يجعله يهم بأحد أبنائه ليضربه من الضجر، وبعد كل هذا الإنتظار يصمت القارئ ليؤذن فيخرج سيجارة بشماله والولاعة في يساره وينتظر متى يرحل "حرف الشين" المرفرف على رأسه من السماعة قبل الأذان.. وفجأة يطأطئ رأسه، وتجتمع اليدان على فمه ويرتفع الحاجب ، ثم يرفع رأسه وينفث غيمة من الدخان إيذانا بانتهاء اليوم الأول..



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد