موسى إبراهيم أبورياش
تتزايد حوادث الانتحار في الأردن، وتتعدد الأسباب، فبعضهم ينتحر شنقاً، وبعضهم ينتحر سماً، وبعضهم ينتحر طعناً، وبعضهم ينتحر بالرصاص، وما يخفى من الأسباب ويبقى طي الكتمان أكثر مما يظهر ويُعلن على الملأ.
ويظن البسطاء والمغفلون أن من يقتل نفسه بيده فقط هو المنتحر وقد ارتكب حراماً يُدخل صاحبه نار جهنم والعياذ بالله، ويتجاهلون أو يغضون الطرف عن مجتمع بكامله يرتكب حماقة الانتحار مع سبق الإصرار والترصد.
ما يحدث في المجتمع الأردني وبالتأكيد في كثير من الدول الأخرى هو انتحار وإن اختلفت أشكاله، وتباينت ألوانه، ولكنه انتحار بامتياز، انتحار ديلوكس، مهما تنوعت الوسائل، وتعددت الأسباب.
ليس شرطاً أن يقتل الإنسان نفسه ليُعدّ?Z منتحراً، فقد يقتل الإنسان نفسه ببطء شديد، أو بطريقة غير مباشرة، أو بوسيلة لا يعاقب عليها القانون، ولكنه في النهاية والمحصلة منتحر بكل تأكيد، ولا يختلف عن قاتل نفسه إلا في التوقيت وسرعة حدوث الموت.
فالمواطن الذي يملأ بطنه حدّ?Z التخمة يمارس انتحاراً بالطعام، والمواطن الذي يعيش في منطقة ملوثة تؤذي جسمه وتصيبه بالأمراض ينتحر بسموم بطيئة المفعول ولكنها مؤكدة النتيجة، والمواطن الذي يترك للشارع مهمة تربية أطفاله إنما يدفعهم للانتحار والموت طيشاً وتشرداً، والمواطن الذي يسمح للتاجر أن يغشه ولسائق التاكسي أن يستغله وللصنايعي أن يضحك عليه إنما ينتحر هبلاً وعبطاً وخنوعاً، والمواطن الذي يظلم غيره ويأكل الحرام ويقتات على دماء الغير وكرامتهم وإنسانيتهم يمارس انتحاراً وخلاصاً من الإنسانية، ويتجرد من ثوب البشرية، والمرأة التي تتخلى عن مهمتها في هذه الحياة مربية للأجيال وحارسة لبيتها ترتكب انتحاراً اجتماعياً يهدد الأسرة والمجتمع، والمرأة التي تخرج وهي متبرجة وقد خلعت ثوب الحياء لتكون نهباً لكل عين ومضغة في كل فم ومطمعاً لكل ذئب تمارس انتحاراً أخلاقياً يقودها وغيرها إلى الهاوية، والرجل الذي تخلى عن مهمة القيادة والقوامة في بيته ينتحر رجولياً، والمسؤول الذي يُقرِّب القريب ويُبعدُ البعيد ويُحابي ويرتشي إنما ينتحرُ وظيفياً، وينحرُ معه كل من قرّ?Zبه وكل من أبعده، وكل من ارتشاه وكل من حاباه.
أما المواطن الذي يصمت صمت القبور وهو يتعرض للويلات والمصائب، ويرى بأم عينه الظلم فيسكت، ويسمع الشكوى فيدعي الصمم وشعاره: الحيط الحيط، أو حط راسك بين الروس، أو أنا مالي، هو مواطن ينتحر صمتاً وخرساً، وهو أشد حالات الانتحار وأعظمها وأكثرها وبالاً وخطراً على المجتمع.
إن المواطن الذي أدمن فن الصمت، وأصيب بالخرس، ولا يعرف شيئاً اسمه الاعتراض أو الاحتجاج، ويرضى أن لا يكون له رأي مستقل، وقبل أن يكون مستلب الإرادة، منقاداً لكل ظالم، ومطية لكل فاسد، مواطن يشترك في الجريمة والإثم، مواطن ارتكب خطيئة الانتحار صمتاً، الانتحار بكماً، الانتحار جبناً، الانتحار هروباً، الانتحار خذلاناً، الانتحار رعباً، الانتحار سلبية، الانتحار انهزامية، الانتحار تبعية، الانتحار ذلاً وخنوعاً.
إن الانتحار بالسم ونظائره موت سريع، والانتحار صمتاً موت بطيء، موت بالتقسيط، الأول يتجرع الألم لحظات ويفارق الحياة، والثاني يتجرع الذل طول الحياة وهيهات أن يموت وهو يتمنى الموت في كل لحظة.
وفي المحصلة كلنا نقترف نوعاً من الانتحار الذي سنحاسب عليه بلا شك في الدنيا والآخرة، وكل منا يشعر في قرارة نفسه أنه مذنب، مجرم، شيطان أخرس. وقليلون هم الذين يحيون كما تستحق الحياة أن تُعاش فهنيئاً لهم؛ كسبوا أنفسهم وعاشوا حياتهم وأراحوا ضمائرهم!!
mosa2x@yahoo.com