الأيام العشرة الأوائل من ذي الحجّة وفضلها

mainThumb

24-11-2009 12:00 AM

د:حسن فالح البكور
إن الإنسان المؤمن على وجه البسيطة خليفة الله في الأرض خُلق لإعمارها وبنائها ، وخلقت الكائنات جميعها والجمادات لخدمته وسعادته ورفاهيته، فله السلطان والسيادة عليها فالمحيطات والبحار والأنهار مسخّرات له ، وكذلك الفضاء واليابسة على حدٍّ سواء لقوله تعالى ? وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا... ? ولعل هذا التكريم الذي خصّنا الله به يستدعي من الجميع السّمع والطاعة له والالتزام بشريعته ومنهاجه المجسّ?Zد في القرآن الكريم والسنة النبوية، ومهما امتثل الإنسان لهذه الأوامر والنواهي فإنه لن يستطيع أن يبلغ الدرجة التي يرتقي بها إلى جنّة النعيم إلا برحمة الله وشفاعة رسوله الكريم ، ومن هنا يشعر المرء أحياناً أنه قدّم الكثير من الأعمال الصالحات التي يعتقد بها أنه حقّق الدرجة التي تؤهله لرضا الإله ، لا سيّما حين يستشعر أن هناك أياماً مباركات تُضاعف فيها الحسنات ، فحينما يحصيها يصل إلى نتيجة مفادها أن أعماله الصالحات بلغت الملايين ، وربما ينسى أو يتناسى أن هذه الأعمال جميعها لا تُعادل نعمة واحدة من آلاء الله ونعمه عليه ,وبحسبة بسيطة لو وُضعت تلك الأعمال في كفّة ميزان ، وكان في الأخرى نعمة البصر أو السّمع أو حاسة الذوق أو الشّم أو التفكير أو اللمس لرجحت هذه الكفّة ، فكيف إذا كانت في الكفّة جميع الجوارح وما أفاء الله على الإنسان وما أنعم عليه ؟
إن الأيام العشرة الأوائل من ذي الحجّة أيّام خيرة وبركة ، يتعرض فيها المسلم إلى نفحات الله التي لا يشقى بعدها أبداً ، مصداقاً لقوله عليه السلام " إن لربكم في أيام دهركم نفحات ، فتعرضوا لها لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة لا يشقى بعدها أبداً " .
من هنا كان الزمن فسحة للمؤمن ليصول فيه ويجول جادّاً ومجتهداً لفعل الخيرات ، فخصّ الله من هذا الزمن شهر رمضان المبارك ، ليكون ميداناُ رحباً لمضاعفة الأجر والعمل، فالحسنة بعشرة أمثالها والله يُضاعف لمن يشاء ، كما أنعم على المؤمن بأيام أُخر لا يقل فيها الأجر عن صوم رمضان ، تلك هي الأيام العشرة من ذي الحجة التي يضاعف فيها العمل الصالح والأجر إلى أضعافٍ مضاعفة ، لقوله عليه السلام " ما من أيام العمل الصالح فيها أحبّ إلى الله من هذه الأيام " يعني أيام العشرة و لا جهاد في سبيل الله ؟ قال : " ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء " . وتكريماً لهذه الأيام فقد خصها الله بالقسم بقوله : ? والفجر وليال عشر ? ومن أعظم الأعمال في هذه الأيام فريضة الحج لقوله تعالى : ? ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ? فعلى كلّ مؤمن بالله أن يغتنم هذه الفرصة قبل فوات الأوان وقبل الرّحيل ، فكم من الأحبة الأخيار والأصدقاء الأبرار قد طواهم الموت فلم يدركوا هذه الأيام ، وإذا كنّا اليوم نتفيّأ ظلالها علينا ألا ندّخر جهداً أو نتقاعس عن المنافسة والمسابقة في هذا الميدان ، وأن نوقظ ضمائرنا التي تاهت سبيلها وربما فقدت بوصلة الأمان ، فضاعت في مسالك الغواية والبعد عن الهداية والنور ، وأن نبدأ المشوار الجديد بعزمٍ وإرادة وقوّة على طريق الحقّ والخير والرّشاد ، وأن نفتّش عما تكتنزه القلوب ، ونراجع صفحات مطويّات في جوانح الفؤاد قد طال عليها الأمد ، فربّما انحرفت عن جادّة الطريق ، فإن كانت مخطوطة بالسّواد وحفرت في القلب آباراً من الآثام وأطناناً من الفواحش والذنوب ، وإن كانت مليئة بالخطايا والكبائر والصغائر والمعاصي ، وجب على صاحبها مراجعة الذّات والعمل على إلقاء تلك الصفحات المظلمة في مزابل التاريخ ، ودفنها في الوهاد والوديان ، وأن يجتهد في غراسة فسائل الحق والأخلاق ، وزراعة التوبة والذّكر والاستغفار لقوله تعالى : ? واذكروا الله في أيام معدودات ? وقوله تعالى : ? واذكر ربّك في نفسك تضرعاً وخفية ودون الجهر من القول ? وأن يتلو القرآن آناء الليل وأطراف النهار، ويتفكر في خلق السماوات والأرض ، ويردِّد آيات الله في القرآن ? ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ? وأن يردّ الحقوق والأمانات إلى أهلها، ولا تخُن أيها المرء من خانك ، فآية المنافق ثلاث " إذا وعد أخلف ، وإذا حدّث كذب ، وإذا اؤتمن خان " فكن صادق الوعد صدوقاً ، وأحاديثك لآلئ لا هُم?Zزة فيها ولا لُم?Zزة ، فالويل لك إن كنت همّازاً مشّاءً بنميم ، وبالجيران كن ودوداً حليماً رفيقاً ، لا تؤذهم أو تتطاول عليهم بالبنيان وترفق بهم ، فهم وصية رسول الرحمن فقال بحقهم : " ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه " وقال عليه السلام : من بات شبعان وجاره بجنبه جائع وهو يعلم فقد برئت منه ذمّة الله " ، وعلينا إسداء النصيحة للمسلمين جميعاً فالدّين النصيحة ، وليس الغدر والخيانة فتلك خصال مذمومة ومرذولة وفي الشرع حرام ركوبها والمباهاة بفعلها .
وفي هذه الأيام وسواها يتوجّب علينا تفعيل التضامن والتكافل الاجتماعي ، فمن كان محزوناً نمسح الآلام عن جبينه، ومن كان يتيماً نرتبت على كتفيه ونشعره بأن المصاب مصابنا جميعاً .ووالده الذي غيبه القدر كان أنيسنا ورفيقنا وحبيبنا جميعاً ، فنواسيه ونعزّيه ونخفف عنه الألم ، بل ونشاركه ونقدّم له ما يحتاج ليقف على قدميه بعزّة وأنفة .
وإذا استغاث ملهوف هنا في مشارق الأرض أو في مغاربها ممّن تجمعنا به الشّهادتان وجب علينا تلبية النداء بالقول والعمل ، ومؤازرته والدّفاع عن حقوقه مهما بلغ الثمن، وإذا طرق الأبواب فقير أو محروم أكل الدهر عليه وشرب ، فمما رزقنا الله نهديه ولو بشق تمرة وإلا فبالكلمة الطيبة وإذا سمعنا النّداء عبر مكبرات الصوت " حي على الصلاة " نلبي, فصلاة الجماعة في المسجد يضاعف أجرها على الصلاة في البيت ,والصّوم ركن من الأركان في الإسلام فرض في رمضان ، وفي ذي الحجّة تضاعف أضعافاً فلا يفوتنا الأجر مهما كانت الأعذار ، فقد ورد عن الرسول ? أنه قال : " صيام يوم عرفة ، أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والتي بعده " وقيل : عنه ? ما من عبدٍ يصوم يوماً في سبيل الله ، إلا باعد الله بذلك وجهه عن النار سبعين خريفاً " والحرص على التسبيح والتهليل والتكبير أمرٌ لا مناص لعاقل منه ، فهو الزاد ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ، وحينها من لاقى ربه – والعياذ بالله – صفر اليدين يقول : يا ليتني كنت ترابا ، وأبناؤنا فلذات أكبادنا تمشي على الأرض ، فهل يهون علينا أن يكونوا على هامش الحياة لا صلاة ولا قرآن ولا صيام على مدى الأيام ، سيقولون غداً يا ربِّ خذ حقّي من والديّ فما كانا يعلّماني تعاليم الدّين والإسلام .
ومما يستحبّ في هذه الأيام التوبة والرجوع إلى الله ففي الحديث كان أكثر دعاء النبي ? يوم عرفة ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير ) وكان علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه يكثر من الدعاء بالمغفرة والعتق من النار وكان يقول في اليوم التاسع من ذي الحجة " اللهم اعتق رقبتي من النار ، وأوسع لي من الرزق الحلال واصرف عني ف?Zس?Zق?Zة?Z الإنس والجان " .
وأما يوم عيد الأضحى العاشر من ذي الحجة ، فقد عدّه بعض علماء المسلمين أنه أفضل الأيام على الإطلاق ، فقد ورد عن الإمام ابن القيّم أنه قال : " خير الأيام عند الله يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر " .
ولما كان فضل أيام العشرة الأوائل من ذي الحجة عظيماً وكبيراً ، فإنّ على أولئك المسلمين المقصرين بحق أنفسهم وبالواجبات المنوطة بهم أن يبادروا بالتوبة إلى الله توبة نصوحا ، وأن يستقيموا على الطريق القويم لعلّ الله يتقبلّهم برحمته ويغفر لهم الذنوب .
ونحن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن نكون يداً واحدة على من عادانا ، وصفاً واحداً كالبنيان المرصوص نقف في وجه من يجرؤ على المساس بديننا الحنيف وقيمنا وسلوكياتنا وأخلاقياتنا وتراثنا وحضارتنا ومقدساتنا ، وعلينا أن نجعل من هذه الأيام المباركات مناسبة للتصالح مع الله ورسوله الكريم ، ونؤسس من خلالها المشاريع النهضوية القائمة على الطاعة والامتثال لأوامر الله تعالى ابتداءً من النفس ومروراً بالأسرة والأهل والجيران والقرية فالمدينة، فنتآخى جميعاً كالمهاجرين والأنصار ، وتجمعنا شراكة واحدة لا غالب فيها ولا مغلوب ، فالصغير يحترم الكبير ، والكبير يعطف على الصغير ، والغني ينفق على الفقير ، والعالِم يفقّه تلاميذه ، والجندي يحرس الحدود ، والتاجر يصدق في البيع والتجارة ولا يحتكر أقوات المؤمنين ، والفلاح يزرع الأرض بالحبوب والزيتون بالتوكّل على الله ثم يقطف العنب والليمون ، وعلى العموم فإن الواجب علينا جميعاً أن نتفيّأ خيرات هذه الأيام وأن نطوي الصفحات المظلمة في حياتنا ونطرحها جانباً لندشّن صفحات جديدة، نخطّها بمدادٍ من نور الله العظيم وليس من محيط الإنس والجان ، وأن نجعل تقوى الله سبيلنا في كل سلوكياتنا وتعاملنا وحركاتنا وسكناتنا ، فالله نسأل أن يغفر لنا الذنوب ، ويعظّم لنا الأعمال الصالحات ويتقبّل منا الصّيام والقيام والركوع والسجود ، والذكر والتهليل والتسبيح ، وأن يسبغ علينا بركات أيام العشرة من ذي الحجة ، وأن يمدّ في آجالنا لأداء فريضة الحج ويعيننا على الطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يُعلي راية الحق والدين ويزلزل كلمة الشّرك والمشركين وعروش الكفر إلى أسفل السافلين ، إنه مجيب الدعاء .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد