انتزاع الله تعالى لخصائص الكون السلبية إعجاز لأنبيائه وكرامة لأوليائه

mainThumb

11-09-2009 12:00 AM

د. حسن فالح بكور

لعل من يصنع آلة أو جهازا فإنه يبتغي من صناعتة ربحا ماديا وشهرة ترفع مكانته ومنزلته في مجتمعه ومحيطه الإقليمي والعالمي ، وإن تحقق هذا الإنجاز وأثبت فعاليته وحصل على إجازة نشره وتعميمه ، فإنه سيقدم خدمة كبيرة للمتعاملين به في مجالها الخدماتي ، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن جهاز الجوال كان تصميمه للاتصال فحسب ،ثم أضيفت عليه بعض التحديثات ليلبي احتياجات أوسع وأكثر شمولية لمستخدميه ، فإذا به يوظف لإطلاق الرسائل الكتابية واستقبالها وكذلك الصور والفيديو والانترنت وما إلى ذلك ومع كل هذه الاستخدامات وما سيطرأ عليها من تجديد وإضافات ، فإننا نتساءل : هل يمكن لصانع هذا الجهاز أن يعطل الوظيفة الأساسية له ويسلبها منه ، أو يستبدلها بين عشية وضحاها لأداء أغراض أخرى تؤديها مركبة فضائية أو صاروخ موجه أو طائرة حربية أو باخرة أو مدفأة أو مكيف ، ثم يعود إلى أصله جهازا للاتصال ؟ لن يحدث ذلك على الإطلاق ، ولن يصدق هذا إلا مخبول أصيب بعقله ، ولم يعد قادرا على التمييز بين الألوان وأشكال الحياة .
نعم إنه العجز الحقيقي للصناع وللشركات العملاقة في شتى أرجاء العالم ، وليس هذا بغريب ، فعقل الإنسان وذكاؤه محدودان ، وكل جوارحه تقف حاسرة عن اختراق النظام الكوني المخلوق بدقة متناهية من خالقه ، والآيات القرآنية في هذا السياق كثيرة تثبت ضعف الإنسان وعجزه ، ومنها قوله تعالى " يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا "
وقوله تعالى " الله الذي خلقكم من ضعف ............" وقوله تعالى " وعلم أن فيكم ضعفا........" ، ولعل من المنطق أن يعقل كل إنسان ويعي هذه الحقيقة ، فما أودعه الله من عناصر وخصائص وجوارح في الإنسان ليست مطلقة في إمكاناتها ، فوظائفها محدودة وطاقاتها مقيدة ، وقدراتها محصورة ، ولقد صدق الله العظيم حينما صور تلك الطاقة الضعيفة لحاسة البصر حينما قال " الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ، فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير "
وقد حكم الله على الإنسان بأنه اوتي من العلم القليل " قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا "
أما علم الله تعالى وقدرته فليست محدودة بزمان أو مكان ، وليست آنية بل هي مطلقة لا يحدها حد ، تخترق أنظمة الإنسان وقوانينه وتتجاوزها ولا تتقيد بها ، فتغيرها وتبدلها وتقوِّضها وتهدمها وتستبدل خصائصها وصفاتها ومميزاتها فيقف الإنسان حائرا مندهشا عما يراه ويشاهده .
وفي هذا السياق نسوق بعض الشواهد التي تثبت هذه الرؤية وتلك الحقيقة التي لا يملك الإنسان إلا أن يسلم بها لأنه يقف عاجزا عن إدراك أسرارها وعلل حدوثها وأسباب تغيراتها من صفاتها الحقيقية إلى صفات أخرى تقف على النقيض منها وينتزع الخالق صفاتها لتكون معجزة للأنبياء وكرامة للأولياء.

ِإن قصص الأنبياء والصحابة والتابعين فيها من المعجزات والكرامات ما يبهر العقول ، وتحيرّ الألباب ، ولم أشأ في هذا المقام أن أسرد جميع المعجزات والكرامات ، بل آثرت أن أسوق بعضا منها في سياق ما أودع الله من خصائص وصفات في مخلوقاته التي في طبيعتها ومن مميزاتها الإيذاء وإلحاق الضرر بالآخرين وكيف تنتزع منها هذه الخواص لتكون أمنا وسلاما وعونا للرسل والصحابة والتابعين .

إننا ندرك جميعا إن ما نراه وما نلمسه من الظواهر الكونية لها صفاتها المرئية لنا ، فالنّار تحرق ، والماء يحيي ، والغيث خير ، والقط أليف ، والأفعى تلدغ ، والرّصاص يقتل، والبحر يغرق ، والليل مظلم ، والنهار ضياء ، والسّهل منبسط ، والصحراء قاحلة ، والجمل راحلة ، والموت قاهر ، ورغد الحياة نعيم ، والمال والبنون زينة ، والجاذبية حقيقة ونعمة ، والأمراض شقاء ، والعقم كره ، وسوى ذلك من الحقائق المادية والمعنوية ما لا يعدّ أو يحصى ، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا في هذا المجال ، هل يمتلك الإنسان من المقدّرات والمقوّمات التي تؤهله في إحداث هزّة أو هزّات في كينونة هذه المواد فيغيرّ مسارها الحقيقي والفعالية التي تختزنها ؟ فهل يقدر على استلاب خاصية الإحراق من النار ؟ أو انتزاع قهر الموت للإنسان ؟ أو إبطال الجاذبية ؟ أو تفريغ الأمراض من صفاتها المؤلمة إلى صفات الرّفاهية والمتعة؟ أو تغيير حقيقة حبّ الإنسان للولد والمال ؟ إنه من المحال أن يفعل ذلك وقد تحدى الله الإنسان أن يخلق ذبابة ولو اجتمع الناس كلهم على قلب رجل واحد فلن يتمكنو, لضعفهم وعجزهم ومحدودية قدراتهم ، قال تعالى : " يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له ، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ، ضعف الطالب والمطلوب .
إنه لمشهد جميل يصّور بأدق تصوير ضعف الإنسان ويتحدّاه على أن يخلق ذبابة ( حشرة ) ، ولم يحدّد مخلوقا كبيرا بل من أصغر المخلوقات لأن الله يعرف أن الإنسان مخلوق من مخلوقاته أودع فيه صفات محدّدة قاصرة عن خلق أصغر مخلوقاته
وأما خالق الكون وما عليه ومن يدبّ على ظهره فبيده أسرار خلقه ومواطن قوته وضعفه ، ومكامن طاقته ومفاتيح حركاته وسكناته ، يوجهها كيفما شاء ، وينتزع منها ما يؤذي أنبياءه وعباده الصالحين وأولياءه المتقين ، فتنقلب بإذنه تعالى ومشيئته من قوى كامنة تتميّز بالإيذاء والضّرر إلى قوى خيّرة وفاعلة تدفع بالإنسان الصالح التّقي إلى محبّة الله والخوف منه ، وتجدّر في نفوس الآخرين أن تقوى الله وحسن الخلق هي زاد المؤمن وسلاحه ، ولقد صدق الله العظيم في محكم كتابه المبين حين قال : " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " كيف لا وقد قرّر جلّ في علاه أنه سينصر رسله ومن آمن برسالاتهم قال تعالى : " إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد "
ونصر الله تعالى لرسله وللمؤمنين يتمثل في صور عدّة ليس مجالها في هذا المقام ، ولكنني سأسوق كيفية نصر الله للرّسل ولمن آمن معهم من خلال

انتزاع خصائص المخلوقات السالبة وإبطالها , وانتزاع عناصرها المؤذية التي تقوم عليها في الأصل ,فالنار تحرق وتؤذي ولكن الله عز وجل جعلها بردا وسلاما على سيدنا إبراهيم عليه السلام حينما اجتمع القوم المشركون واتفقوا على أن يلقى إبراهيم في النار التي أوقدوها عقوبة له بما اقترفته يداه الكريمتان من تكسير أصنامهم , ويفزع القوم لمشاهدة هذا المصير المأساوي , وما دروا أن الله موهن كيدهم, قال تعالى " ذلكم وان الله موهن كيد الكافرين "
ويكشف مكرهم ويهزمهم ويفضح أمرهم " ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " " ويرتد مكرهم إلى نحورهم " وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون " وما أروع ذلك التصوير القرآني الكريم الذي ينقل لنا مشهد القوم وهم يخططون ويتآمرون على سيدنا إبراهيم وما أجمل ذلك الرد الإلهي على تدبيرهم القذر الذي كان ردا موجعا ومؤلما ومخيبا لآمالهم بل وصاعقة زلزلت كيانهم, وأحدثت في نفوسهم الرعب ,وخلخلت أفكارهم وهزت كيانهم وصدمت مؤامراتهم " قالوا حرِّقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين , قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين"
وشبيه بهذا الموقف ذلك المشهد الذي حدث لأبي مسلم الخولاني حينما طلبه الأسود العنسي وكان قد ادٌعى النبوة , فقال للخولاني أتشهد أني رسول الله , قال لا , فأمر بنار فألقي فيها , فوجدوه قائما يصلي فيها , وقد صارت عليه بردا وسلاما .
ولعل قصة موسى عليه السلام مع فرعون مصر خير شاهد على تفريغ القوة من مضمونها ومحتواها وتحويل العداوة التقليدية إلى أُلفة لصالح المؤمنين بالله , فحينما قرر الطاغية فرعون قتل جميع الذكور من بني إسرائيل , أوحى الله تعالى إلى أم موسى أن تودع ابنها في التابوت ثم تقذفه في البحر "إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى , أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو له وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني" وان وجود موسى عليه السلام في التابوت وهو مغلق يدعو إلى التساؤل , كيف استمرت الحياة داخل التابوت علما إن قانون الطبيعة يؤكد إن فقدان الشخص للهواء لمدة محدودة يؤدي إلى الاختناق والموت , ويزداد الأمر تعقيدا حينما يلقى في البحر , وهنا تكون المفاجأة حينما يصل التابوت بالقرب من قصر فرعون , ويعثرون على هذا الطفل وتربيه ‘امرأته لعله ينفعهم , فسبحان الله الذي سخر عدو موسى ليكون مربيا له , وما عرف فرعون إن موسى سيكون عدوه اللدود , " وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون "
وأما السحرة المقربون إلى فرعون الذين ناصبوا موسى عليه السلام العداء والبغضاء , فإذا بأعداء الأمس يؤمنون بموسى , لأنهم اقتنعوا برسالته من خلال غلبة موسى لهم في الميدان , حينما تحولت عصاه إلى أفعى تلقف عصيهم , " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى , فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى "
ومع مشهد آخر يقف فيه رب العالمين إلى جانب الحق الذي يمثله موسى عليه السلام , فبعد إن يئس من فرعون وقومه ترك مصر فارا بدينه وعصبته المؤمنة ولكن البحر أمامهم , ولا يملكون سفينة للنجاة , فأين المفر ؟
وفرعون وجنوده بهم يلحقون, للفتك بهم وقتلهم وتمزيقهم شر ممزق , ويقترب العدو من سيدنا موسى عليه السلام ويتعاظم خطر الموقف فإذا ببشائر الانفراج تلوح في الأفق وتتنزل الرحمة من الباري جلت قدرته على من خشيه واتقاه .
فيجعل لهم مسلكا في البحر يبسا " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " وينتزع الله خاصية الإغراق من البحر , فينفلق إلى اثني عشر شقا على قدر بني إسرائيل ويعبره موسى عليه السلام ومن معه , ويطبق على فرعون وملئه " ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى , فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم , وأضل فرعون قومه وما هدى"
ويتكرر هذا الموقف عند الصحابي العلاء الحضرمي عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين
فكان يقول في دعائه : يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم , فيستجاب له , فلما اعترضهم البحر هو وأصحابه ولم يقدروا على المرور بخيولهم , مروا كلهم على الماء وما ابتلت سرج خيولهم .
وثمة مشهد آخر يثبت فيه رب البرية انه مع عباده الصالحين والمؤمنين , فامرأة زكريا عليه السلام كانت عاقرا لا تنجب ولدا , وزكريا كان قد بلغ من العمر حد اليأس , ولكن مشيئة الله وقدرته تخترق المألوف الذي اعتاده الإنسان فتجعل من اللا منطق منطقا , ومن اللا ممكن والمستحيل ممكنا , قال تعالى " يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا , قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا , قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا " .
ويروى إن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ركب البحر فانكسرت سفينته فركب لوحا من ألواحها وطرحه اللوح إلى أجمة فيها أسد,فأقبل الأسد يريده فقال له :يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله ,فطأطأ راسه وأخرجه من الأجمة ووضعه على الطريق وهمهم ,فظن أنه يودعه.
وأما خالد بن الوليد فحينما حاصر حصنا للعدو ,قالوا له :لا نسلم حتى تشرب السمّ فشربه ولم يضرّه .
وعبد الواحد بن زيد كان قد أصيب بالفالج (الشلل النصفي) وسأل ربه أن يطلق وقت الوضوء ,وكان له ما سأل ثم تعود أعضاؤه كما كانت بعد الوضوء
وأما عمرو بن عتبة بن فرقد فقد كان يصلي يوما في شدة الحر,فأظلته غمامة ,وكان السبع يحميه وهو يرعى ركاب أصحابه ,لأنه كان يشترط على أصحابه في الغزو أن يخدمهم .

إن الأمثلة كثيرة في هذا المقام ويصعب حصرها في هذه المقالة .ولكنني قدمت بعض المقتطفات لأثبت من خلالها أن الله عز وجل يقف إلى صف عباده المؤمنين ,فمن يكن الله معه فمن عليه ؟ وقد صدق الله العظيم حيث قال "إنّ الله يدافع عن الذين آمنوا إن الله لا يحب كل خوان كفور"
ومن يتسرب الشك إلى قلبه فعليه أن يتأمل بعض الحقائق ومنها :أن ملح الطعام الذي لا يخلو منه بيت يعدّ مركبا أساسيا في الاستخدامات اليومية لإعداد الطعام ,ولكن المفاجأة الكبرى التي قد تغيب عن بعضنا أن ملح الطعام يتكون من عنصرين سامين جدا هما الكلور والصوديوم ,فالعنصران بصورة منفصلة حارقان وسامان ومؤذيان ,ولكن امتزاجهما معا في صورة مركبة يجعلهما يفقدان هذه الفعالية وهذا التأثير ,وهل يستطيع الإنسان أن يتصرف بمثل هذه الطريقة ؟ من المحال أن يفعل ذلك ,وكذلك الماء مصدر الحياة وشريانها فهو يتكون من عنصري هيدروجين وعنصر الأوكسجين ,وكما نعلم أن الهيدروجين مضر ومؤذ,فكيف يستقيم الأمر ؟إنها قدرة الله تعالى التي كفر بها وللأسف بعض البشر"هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه "

إننا اليوم مطالبون -في زحمة المتاهات والإعراض عن منهج الله –أن نوجِّه الأجيال إلى التمسك بأهداب الشريعة المحمدية وأن نستقيم على الطريق الذي اختطه لنا رب البرية "قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين "والحمد لله رب العالمين
hasanlbkoor@yahoo.com


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد