ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ

mainThumb

22-03-2014 03:26 PM

عنترة العبسي شاعرٌ وفارسٌ اشتهر شُهْرةً مُطْبِقَةً ، فمنْ أحبَّ الفروسيَّةَ والاقدام تَغَنَّى بشعره ، ومن أحبَّ الغزل والنسيب لَهِجَ بشعره أيضا ، بل من أحبَّ العِفَّة وصون الجارة رددَ بيته الشَّرود :

وأغُضُّ طَرْفي إنْ بَدَتْ لي جارتي
................ حتَّى يُوَاري جارتي مأواها .

ولقد وَضَع الوَضَّاعون عليه حديثاً عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( ما وُصِفَ لي أعرابي قط ، فأحببْتُ أنْ أراه إلا عنترة ) ، وهو حديثٌ منكرٌ !

وكُلُّ ذلك لشهرتِه المطبقة التي عرفها معظمُ العرب وغيرهم ...

وعنترة من الشعراء الذين اقتصروا في حُبِّهم على واحدة وهي ابنة عمِّه ( عبلة ) ، فلا تكاد تجد قصيدة له تخلو من ذكرها والتشبيب بها ، وهذا يَدُلُّ على الصدق والوفاء والاخلاص ، وندللُ على ذلك ببيتين من روائعه الشعرية ، وفعْلُنا ذلك لنثبتَ للشباب العربي أن شعرنا ولغتنا هي مواطن الجمال والاتقان ليس أولئك ( النوابت ) الذين شوَّهوا لغتنا وآدابَنا من أمثال جبران ودرويش ... والحداثيين .

قال عنترة في صدقه لابنة عمِّه ( عبلة ) :

ولقد ذكرتُكِ والرماحُ نواهلٌ
........ مني وبيضُ الهندِ تَقْطُرُ من دمي
فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنَّها
....... لَمَعَتْ كبــارقِ ثَغْرِكِ المتبسمِ .

فعنترةُ في صدد وصف المعركة التي خاضها مع الاعداء ويصف بطولتَه وشجاعتَه ، وفي هذا الظرف الحَرِجِ الذي ينسى الخليلُ خليلَه ، ويفرُّ الكُماةُ عن الاب والابن والحليلةِ ، عنترةُ يخبرنا أن ( عبلة ) معه في هذا الموقف الصعب بل يذكرها والرماحُ تنهلُ من دمه والسيوف تقطر من مهجتِهِ !

فعنترة يؤكِّدُ ذكرَه لمحبوبته (علبة ) في ذلك الظرف الصعب باستعمال لام جواب القسم وحرف التحقيق ( قد ) ( ولقد ... ) لأن التوكيد هنا في محلِّه لأن غالبَ الناس في هذه المواقف ينسون كلَّ شيء الا النفس وسُبُلَ النجاةِ بها ، لكنَّ عنترة الفارس العاشق كان ذكرُ ( عبلة ) هو المسيطر عليه في هذا الموقف ، فهي لمحةٌ من عنترة مفادُها : ( هذا الموقف الرهيب لم ينْسِني ذكرَكِ ، فكيف بمواقف الرخاء والهدوء والسَّعة ؟!! ) .

فهي حاضرة في فؤادِه ؛ ولذلك عبَّر عنها بكاف الخطاب ( ذَكَرْتُكِ ) رغم بعدها عن موطن المعركة ...

وذكر عنترةُ من أدوات السلاح نوعين هما : ( الرماح ، و البيض ) والبيض هي السيوف الهندية القوية ... وعادة الابطال في ذكر هذين النوعين لاثبات شيئين :

1- القوة والصلابة في ذكر الرمح وطوله ؛ لأنه لا يقوى على حمل الرمح والتلويح به الا من كان ذا بنية قوية وجسم طويل رشيق .

2- الشجاعة والاقدام وقوة القلب مع ذكر السيف ؛ لأن السيف هو الالتحام والاقتراب من الاقران والكُماة ... فالجبان لا يجرؤ على ذلك بل يفرُّ فرار النعامة !

وذكر عنترةُ نهلَ الرماح من دمه ، والنهل هو الشربُ أوَّل مرة ، والعَلَلُ الشرب ثانية ، وعنترة له تلميحٌ باستعمال ( النهل ) دون العلل ، لأن النهل هو الصدمة الاولى وفي هذه الفترة قد يرتبك الفارس ويندهش ويكون جُلُّ تفكيره في نجاة نفسه واتقاء الخطر ، إلا ان ذلك لم يمنعه من ذكر ( عبلة ) ووصف مبسمها وثغرها !!!

وعند ذكر ( السيوف ) استعمل ( تقطرُ ) وهذا قمة مدح السيوف وهي تختلسُ النفوسَ اختلاسا ، وفي هذا ردُّ على تحكيم ( النابغة ) في تضعيف شعر حسان – رضي الله عنه – في القصة المشهورة التي يعرفها شُدَاةُ الأدب .

ولقد زدادَ ذكرُ عنترة لعبلة كثيرا عندما رأى بريق السيوف فذكَّرَتْهُ ببريق مبسم وثغر عبلة فوَدَّ ان ينكبَّ عليها لا لِيَكْسرها او يبددها بل ليقبلها !! ، فعبلةُ وذكرُها مطبقٌ على قلبه وذاكرته في أحلك الظروف ...

وهذا يُذكِّرُنا بفعل المؤمنين من الصحابة الكرام في معاركهم ضد المشركين ، قال تعالى :

( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ) .

فالمؤمنون يلهجون بذكر الله في اشد المواقف عند تطاير الرؤوس وبعج البطون وما ذاك الا لصدقهم مع الله حُبَّا وتذللا ...



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد