الحرباءُ في شعر ذي الرُّمَّة !

mainThumb

03-04-2014 11:00 AM

تراثُنا نبعٌ ثرٌّ بكل جمال وابداع ، ومن أعطاه الله الذوقَ الرفيع لهذه اللغة العظيمة عرف ما أقوله وما أشير اليه ، أما منتكسو الذوق فهم الى السقيم يهرعون ومنه يعلُّون ...وينهلون !!!

فقد اختَصَّ بعضُ شعرائنا الاقدمين في وصف أشياء من محيطهم وحياتهم ، فقد وُجِدَ من أتقنَ وَصْفَ الخيل ، ومنهم من أتقن وَصْفَ القوسِ ، ومنهم من أجاد في وصف الثور ومطاردة السلوقي له ...

ومن الجمال الفارع ما جاء في وصف ( الحرباء ) وصفا يقف العربي إزاءه وقفةَ عزٍّ وسُمُوٍّ لهذه اللغة وأصحابها !!

فمن المجيدين بل البارعين في وصف ( الحرباء ) أثناء اشتداد حرِّ الشمس في بطون الصحاري والبيد الشاعرُ الفحلُ ( غيلان بن عقبة ) المعروف ب ( ذي الرُّمَّة ) ، فهو صاحبُ سفرٍ ووصفٍ للدِّمَنِ وهو من سقى ديار محبوبته ( مي ) الدموع ، وخلَّدها بقريضه العذب الذي سارت به الركبان ...

فقد شاهد ذو الرُّمَّة هذه الدُّوَيْبَة في تَقَلُّبِها أثناء النهار وما تتشَكَّلُ به من ألوان وهيئات ، فأعطاها صورا لا مثيل لها ...

فهو يأتي بصورة رائعة لهذه الحرباء ، ويُشَبِّهُها برجل صاحب ذنوبٍ فهو رافعٌ يديه يستغفر ربَّه – عزَّ وجلّ - :

كأَنَّ يَدَيْ حربائها مُتَشَمِّسا
..... يَدَا مُذْنِبٍ يستغفرُ اللهَ تائبُ .

فهذه الحرباء اذا اشتَدَّ هَجِّيْرُ الأرض أمسَكَتْ ببعضِ الأغصان ،فَكَأَنَّه مسلمٌ ارتكب بعضَ الذنوب فهو عائدٌ إلى الله يرفع يديه مستغفرا ونادما على ما فرَّط في حياته !!
ثم يبتكِرُ صورةً أُخرى – أيضا - لا تِقِلُّ جمالا وفخامةً عن الصورة الأولى ، فاستمع اليه يقول :

وقد جعل الحرباءُ يَبْيَضُّ لَوْنُهُ
..... وَيَخْضَرُّ من لَفْحِ الهِجِّيْر غَبَائِبُهْ
وَيَشْبَحُ بالكفين شَبْحَاً كَأَنَّهُ
..... أَخُوْ فَجْرَةٍ عَاْلَى به الجِذْعَ صَاْلِبُهْ

فهو يصف كيف تكتسبُ هذه الحرباءُ ألوانا بسبب شِدَّة الحر فهي مرَّة تَبْيَضُّ ، ومرَّةً تَخْضَرُّ ، وهذا التغيُّرُ يتمركزُ ويظهرُ بشكلٍ واضح في الجلدة ( غبائبُهْ ) التي أشفل الحَلْق .

وبعد ذكر الألوان التي تتقَلَّبُ فيها هذه الحرباء ، ينتقلُ إلى حركاتها ، فهو يُشَبِّهُها برجلٍ اقترف ذنباً عظيما ( فَجْرَةٍ ) استوجب ( الصلب ) على أعواد يُشْبَحُ عليها أمام الناس ، فالحرباء تمسكُ الاغصان بيديها معلقةً فهي كذاك الرجل الذي جاء بفجْرَةٍ مُسْتَشْنَعَةٍ !!

وفي نهاية الوصف لهذه الحرباء يأتي بصورة قد تفوق الصورتين السابقتين :

يَظَلُّ بها الحرباءُ للشمس ماثلاً
..... على الجِذْلِ إلا أنَّهُ لا يُكَبِّرُ
إذا حَوَّلَ الظِّلَّ العَشِيُّ رأيْتَهُ
..... حَنِيْفا وفي قَرْنِ الضُّحَى يَتَنَصَّرُ

ففي هذه الصورة عابدٌ راهبٌ ، وفي تلك الصورتين صاحب ذنوب في الاولى مستغفرا وفي الثانية قد أُخِذَ بجريرته فهو مصلوب مشبوح !!!

هو عابدٌ في الصورة الأخيرة ماثلٌ منتصِبٌ قُبَالةَ الشمس كأنَّه في صلاة إلا أنَّه لا يُكَبِّرُ ولا يُهَلِّلُ كفعل المصلي ، وهو في هذه العبادة مرَّة على دين الاسلام حنيفا ، مستقبلا القبلة التي يتوجَّهُ صوبَها المسلمون في صلاتهم ، ومرَّة نصرانيا يدور مع الشمس الى جهة قبلة النصارى !!

صورٌ تَدُلُّ على نبوغِ وعبقرية العربي ، فَهَلَّا انبعثَ شبابُنا للعكوف على هذا النبع الزمزمي ؟!!!!



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد