القطاع العام بين رؤية النهضة وإشكالية التقليص

القطاع العام بين رؤية النهضة وإشكالية التقليص

12-12-2025 01:09 PM

بمناسبة مناقشة وتمرير قانون الموازنة العامة للأردن، تشتد النقاشات حول مستقبل القطاع العام , غالباً ما يتم تقديمه في هذه المناقشات كمجرد عبء مالي يجب تخفيفه، وذلك انطلاقاً من رؤية اقتصادية ضيقة لا ترى في الدولة سوى أداة لجمع الضرائب وتوفير الحد الأدنى من الخدمات الأمنية والقضائية.

هذه النظرة تتناسى حقيقة أساسية: القطاع العام ليس تكلفة جانبية، بل هو العمود الفقري لأي نهضة اقتصادية وإدارية حقيقية، كما تثبت التجارب العالمية الناجحة.

إذا أردنا أمثلة حية، فلننظر إلى النماذج التي بنت معجزاتها التنموية على أكتاف قطاع عام قوي وموجه : الدول الإسكندنافية التي حوّلت دولة الرفاه إلى محرك للإنتاجية والابتكار، وكوريا الجنوبية التي قادت قطاعها العام الاستراتيجي عملية التحول الصناعي والتكنولوجي، وسنغافورة التي جعلت من كفاءة مؤسساتها الحكومية العلامة الأبرز لجاذبيتها العالمية.


في هذه النماذج، كان القطاع العام هو الأداة الرئيسية لامتصاص البطالة وتطوير الإنسان، عبر استثمار ضخم في التعليم المجاني المتطور، والرعاية الصحية الشاملة، والتدريب المهني المستمر، والبحث العلمي, لقد كان مُطوِّراً ومُحفِّزاً، وليس مجرد مُشغِّلٍ.

المشكلة في الاردن لا تكمن في فكرة القطاع العام بحد ذاتها، بل في تحوّله - تحت ضغوط سياسية واجتماعية - عن وظيفته التنموية الأساسية, لقد تحوّل في أحيان كثيرة من أداة لخدمة المواطن وتنفيذ رؤية وطنية، إلى مجرد "مُشغّل اجتماعي" عشوائي.

هذا التحوّل هو الذي يجعل منه كياناً "ضخماً" بالعدد والكلفة، لكنه صغير بالإنتاج والأثر، ويغذّي بدوره النظرة النقدية الضيقة ضده.

هنا تكمن المفارقة المأساوية: سوء إدارة القطاع العام تُستخدم كتبرير لتقويض فكرته الأساسية، بدلاً من كونها حافزاً لإصلاحه.

التحدي الجوهري الذي يجب أن توجه له الموازنة مواردها واهتمامها، ليس تقليص الأرقام بمنطق آلي مستورد، بل تحويل الوظيفة نحو نموذج إنتاجي.

نحتاج إلى إصلاح يرفض الثنائية العقيمة بين نموذج ليبرالي متطرف يختزل الدولة في جابي ضرائب، ونموذج محلي مشوّه يحوّلها إلى ماكينة توظيف لامتصاص ردود فعل الشارع .

الإصلاح الحقيقي هو الذي يستلهم روح النماذج الناجحة، فيجعل من القطاع العام مستثمراً في رأس المال البشري، ومهندساً للبنية التحتية الذكية، ومنظِّماً عادلاً للسوق، ومقدِّماً لخدمات أساسية تنافسية الجودة.


هذا التحول يتطلب جرأة في تنفيذ إجراءات أساسية، أولها وقف استخدام التوظيف العام كصمام أمان اجتماعي عشوائي، وربطه عضوياً باحتياجات التنمية الفعلية ومعيار الكفاءة المحضة.

كما يتطلب إرساء ثقافة مؤسسية جديدة تقيس الأداء بالإنجاز الملموس للمواطن، وتعيد هيكلة الأجهزة لتركز على التخطيط الاستراتيجي وضبط الجودة، مع فتح المجال لشراكات ذكية مع القطاع الخاص في المجالات القابلة للتسويق, ولا غنى عن استثمار موازٍ وجاد في إعادة تأهيل الكوادر البشرية الحالية، لأن الإنسان المُدرَّب هو الوقود الحقيقي لأي إصلاح.

تمرير الموازنة بمنطق التقشف قصير النظر، دون تبني رؤية تحوّل القطاع العام إلى محرك إنتاجي، هو تخدير مؤقت لألم المالية العامة، بينما يترك جروح التنمية تنزف , الأردن لا يحتاج إلى جهاز مدني أصغر حجماً، بل إلى جهاز مدني أكثر ذكاءً وفاعلية.

الخيار الحقيقي ليس بين قطاع عام ضخم معطّل ولا قطاع عام، بل بين قطاع عام "مُستنزَف" وقطاع عام "مُستثمَر" فيه.

النهضة تبدأ عندما نُعيد للدولة وظيفتها التنموية، ونرفض أن نختصرها في دور جابي الضرائب أو موزع الوظائف.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد