قِصَّتي مع العجوز العطوي

mainThumb

29-06-2014 03:13 PM

لقد أنعم الله علينا بزيارة البيت الحرام هذا العام ، وقد كان من قبلنا يكتبون رحلاتهم ويُدَوِّنون ما يجري لهم ، وما يشاهدون ، وعلى سَنَنِهم سأذكرُ طرفا مما شاهدتُ أثناء رحلتي ، بدأنا الرحلة من الطرف الشمالي لدولة السعودية ، وهو مدخل ( العْمِري ) بالقرب من قرية ( القريات ) ، وقد وجدنا أشياء تَسُرُّ وأُخْرى تُحْزِنُ كعادة هذه الدنيا التي لا تَصْفو حتى للملوك !

وذكري لهذه الرحلة دافعُه ، قِصَّةٌ جرتْ لنا ونحن قافلون من المدينة المنورة – على ساكنها أفضلُ الصلاة والتَّسليم – عبرَ طريق مدينة تبوك أرض الأجداد والأسلاف ، قصةٌ تُذَكِّرُنا بصفات العرب الأوائل ، صفة ( النجدة والنخوة ) التي درستْ رسومُها في هذا الزمان ، واختفتْ معالمُها إلا عند قِلَّة قليلة ، هم مِلْحُ الدنيا التي شانها الغدرُ وعواءُ الذئاب !

قصةٌ لا نسمعُ بأخواتها إلا في بطون الكتب والأشعار ، نتغنَّى بها ونذرف الدمع على أطلالها كما ذرف المحبُّون غزير الدمع على الدِّمَنِ وآثار النُّؤي ، وأثافيِّ الخيام .

وبَداءة ذي بِدْءٍ فإن خروجَنا من دولة السعودية كان من مخرج مدينة ( تبوك ) لِسماعنا أن مخرجَ القريات فيه مشاكلُ وعُسْرٌ ، وأثناء السير بين المدينة المنورة وتبوك قررنا أن نَعوجَ على شجرة كان لنا فيها مَقيلٌ حال قدومنا الى المدينة ، وكانت شجرةٌ صحراوية ذات برودة وظلال حتى أن أحدنا تَمِنَّى أن تكون في حوش داره لِيَجْعَلها مَجْلِسا في حَمَّارة القيظ ولهيب الحرور والسموم ، نعم عُجْنا عليها فِعْلَ ( ذي الرُّمَّةِ ) بديار محبوبته ( مَيٍّ ) :

خَلَيْلَيَّ عُوْجا من صدور الرَّواحِل
.... بِجُمْهورِ حُزْوَى ؛ فَابكيا في المنازلِ
لَعَلَّ انحدارَ الدَّمْعِ يُعْقِبُ راحةً
.... من الوجدِ أو يَشْفي نَجِيَّ البلابلِ .

فما إنْ تركنا الطريقَ العام واقتربنا من تيك الشجرة حتى غارت عجالُ السَّيَّارة في كثيب الرمل ، فحاولنا الخروج من هذه الورطة – الورطة لغةً هي الدخول في الوحل ثم استعيرتْ عن كل بلاء ومُصاب – مرةً بالدفع الى الامام ومرة الى الخلف ، لكن لا جدوى ، فقرر أحدُ الرفقاء الوقوفَ على الطريق العام والتَّلويح للمارَّة لعلَّ قلباً شفوقا يُسْعِفنا ، فلم يَطُلْ الوقوفُ ، فإذا سيارة من سيارات البدو تقف – وسيَّارات البدو قوية تتحمل الرمال والطريق الوعرة ، ولعلهم استعاضوها عن البعير سفينة الصحراء – أخذنا نتعرف على ملامح الرجل صاحب النجدة والنخوة الذي أنجدنا في أرض مقطوعة إلا من الوحش والجآن ، قلنا لعلَّه شابٌ أو كهلٌ ، اقترب منا حتى بدتْ ملامحُهُ تظهرُ لنا واضحةً ، فإذا هو رجلٌ في العقد التاسع أو ما ينوف !

نزل من سيَّارته القوية يكادُ يقعُ من شدَّة الضعف الذي سببُه كِبَرُ السِّنِّ ، يحملُ تحتَ إبطهِ ( مسدسا ) عادة البدو في التَّحلي بالسلاح ، حتى قلتُ في نفسي لو أطلقَ رصاصةً لوقع الى الارض لا محالة !

تكلمنا معه عن سبب وجودنا هنا ( ورطة يا عمْ ) فتبسَّم وقال : ( خير إنْ شاء الله ) فأخرج لنا حبلا من وراء مقعده ، ولكن هذا الحبل انقطع عند أوَّل محولة لِسَحْبنا ، ففتَّش هنا وهناك في السيَّارة حتى وقع على ( جنزيرمن حديد ) فقمنا بربط ما بين السيارتين ، فكان النَّجاءُ والفرج ، فنزل من سيَّارته حتى يُوَدِّعُنا ونودِّعه ، فأحببْتُ التعرُّفَ إليه ، فقلتُ له : ( يا عمْ مااسمُك ومن أي القبائل أنتَ ؟ ) فتبَسَّم ، وقال : ( وايشْ تَبي باسمي ) ؟ فعرفتُ أنه لا يريدُ اعطاءنا اسمه ، فكررتُ السؤال : ( من أي القبائل أنت ) ؟ فقال : من ( بني عطية ) ، ففرحتُ لهذا الجواب وقلتُ مُسْرعا نحن من أبناء عمومتِك ، فدعانا الى الطعام ، فشكرناه وأمسكنا الطريق العام وهو ينظر الينا حتى يَطْمَئِنَّ على سلامتنا .

فجزاه اللهُ كُلَّ خيرٍ ، رغمَ أننا ما عرفناه ، ولكنَّ الله يَعْلَمُه !



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد