وَفَاء الجُذامي لِجَرْعاء ( مَيْ )

mainThumb

10-08-2014 11:23 PM

لقد أحببْتُ الأدبَ العربي منذُ نعومة أظفاري ، ولم أُدِرْ وجهي لسواه ، فلا الحداثةُ تغريني ، ولا هذيانُهم يُصْبيني ، عكفتُ على القديم حتى نهلتُ منه وَارْتَوِيْتُ ، عشقتُ نخيلَ ال...عربِ ، وأبغضتُ نخيل الافرنج ، وأوَّلُ شاعرٍ رافقتُه بُرْهَةً من الزمن ( هُدْبَةُ بن خَشْرم العذري ) ، وقصتُه مع ابن عمِّه زيادة والنِّهاية المأساوية لهذا الشاعر الرقيق الذي خانه الدَّهرُ ، فَتَلَطَّخَتْ يداه بدم ابنِ عمِّه زيادة ؛ فكان الحبسُ والقصاصُ ، فقال وهو في حبسه :

عسى الكربُ الذي أَمْسَيْتُ فيه
...... يكونُ وراءَهُ فَرَجٌ قريبُ

فَيَأْمَنُ خائفٌ ، وَيُفَكُّ عانٍ
...... وَيَأْتي أَهْلَهُ النَّائي الغَرِيْبُ .

وهو يُبَرِّءُ نفسَه من البِدّءِ بالشَّر مع ابن عَمِّهِ زيادة ، فيقولُ :

ولستُ بِمِفْرَاحٍ إذا الدهُر سَرَّنِي
................. ولا جازعٍ من صَرْفِهِ المُتَقَلِّبِ
ولستُ بباغي الشَّرِّ ، والشَّرُّ تاركي
.................. ولكنْ متى أُحْمَلْ على الشَّرِّ أَرْكَبِ .

هذه بداياتي مع الأدب العربي ، ثُمَّ مالتْ رِكابي إلى صاحب مَيٍّ طَوَّافَ الصَّحاري ، نَعَّاتَ الدِّمَنِ والأَثافي ، غيلان بن عقبة ( ذو الرُّمَّة ) ، الذي كان الأصمعي يقدِّمه على الشعراء !

ووفاءً لِغيلان عَزَمْتُ على الذَّبِّ عن بيتٍ له ، جعله بعضُ النقَّاد مَضْرَبَ الإساءة والمُغالطة ، وما دَرَوْا أنَّه واسطةُ العِقْدِ ، وَقُرْطُ مارية ...

والمُسيئون لبيت غيلان يجعلونه من الابيات التي خَلَتْ من ( الاحتراز ) ، وفي مقابِله بيتُ طرفة بن العبد الذي راعى الاحتراز والحذر ، ولِنَذْكُرْ قول طرفة أوَّلا ، ثم نشرع في بيت غيلان ، قال طَرفةُ بن العبد في ديار محبوبَتِهِ داعياً لها بالسُّقْيا :

فَسَقَى دِيَارَكِ – غَيْرَ مُفْسِدِها –
..... صَوْبُ الَّربيعِ ، وَدِيْمَةٌ تَهْمِيْ

فطرفةُ احترزَ عندما دعا بالسُّقْيا لدار المحبوبة ؛ بوضع عبارة ( غير مفسدها ) حتى لا يكونَ المطرُ خراباً وغرقاً ، فَضَمِنَ لها السَّلامةَ بهذا الاحتراز ، مع أنَّ صوبَ الربيع لا يُفْسِدُ ، وكذلك ذِكْرُ الدِّيْمةِ وهي السحابةُ التي تُنْزِلُ مَطَرَها بشكل خفيف دائمة ، وفي الغالب لا يُصاحِبُها فسادٌ ولا مَكْرُوْهٌ .

وانهالَ النَّقْدُ على بيت غيلان وجعلوه مَضْرَب الخَطَلِ والعيبِ ، حتى قال أبو هلال العسكري عنه في ( الصناعتين ) ( 435 ) :

( فهذا بالدُّعاء عليها ، أَشْبَهُ منه بالدُّعاء لها ؛ لِأنَّ القَطْرَ إذا انْهَلَّ فيها دايماً فَسُدَتْ ... ) !

وبيتُ غيلان هو :

ألا يا اسْلَمِيْ يا دارَ مَيٍّ على البِلى
.....
 ولا زالَ مُنْهَلَّاً بِجَرْعائِكِ القَطْرُ .

وقد غاب عن العسكري ومن سلك مسلكه في عيب هذا البيت ، أنَّ بيتَ غيلان في السَّلامة أمتنُ وأحرزُ من بيت طرفة بن العبد ؛ وذلك لِأسبابٍ :

أنَّ غيلانَ قَدَّم الدُّعاء بالسَّلامة في أوَّل البيت ، ثم بعد ذلك ذكرَ انهلال القطر ، فالسَّلامةُ سابقةٌ ومقَدَّمةٌ بل من شِدَّة حرص غيلان على سلامة ديار مَيٍّ من فساد الامطار ؛ أقْحمَ الفعلَ ( اسلمي ) بعد حرفِ النِّداء ، ونحن نعلم أنَّ حروفَ النداء من خصائص الأسماء . وماذاك منه الا لِتَفَطُّنِه وتحَرُّزِهِ ألا يُصيبَ دارَ المحبوبةِ عَطَبٌ أو فسادٌ .

وكذلك بدأ غيلانُ بحرف الاستفتاح و التَّنبيه ( ألا ) الذي يكون فيه شيءٌ من التَّنْبيه و الحذرِ .

وَذِكْرُ ( الجرعاء ) فيه أيضا لَمْحَةٌ بالسَّلامة ؛ لأن الجرعاء هي ( رابيةٌ سَهْلَةٌ لَيِّنَةٌ ) وقال أبو عمرو : الجرعاء : مرتفعٌ من الرَّملِ مُسْتَوٍ ، وما كان مرتَفِعاً فلا خوفَ عليه من الغرق والفساد ، فقد كان البدو إذا نزلوا الأماكن في الشتاء يبتعدون عن الأودية التي هي مظنة السيول العاتية بل ينزلون في رابية تحميهم من الغرق والبلل .

وقد تفاءلَ العلَّامةُ اللغويُّ الجواهري بهذا البيت الذي حوى السَّلامة ؛ فجعله خاتمةَ كتابه العظيم ( الصَّحاح ) .

وبهذا نكونُ وفينا لغيلانَ وبيته :

ألا يا اسلمي يا دارَ مَيٍ على البِلَى
..... ولا زالَ مُنْهَلَّاً بِجَرْعَائِكِ القَطْرُ .



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد