لا للوصاية الفكرية ..

mainThumb

02-01-2015 11:12 PM

 إذا نظرت في واقعنا و في تاريخنا الفكريين و السياسيين ؛ لتجدن وصاية الأقوياء على الضعفاء جاثمة فوق المشهد في أقبح صورها وفي أشنع معانيها . 

 
فها هو الحاكم المتغلب يفرض وصايته على الناس ؛ و لا زال ، متلهجا أنه حامي الديار ، ومحقق الازدهار ، و حافظ المجتمع من الانهيار ، و أنه الوحيد و الفريد و الذي من الله به على العبيد ، فلا حياة تستقيم بلاه ، فكل من على الأرض ينبغي أن يكونوا فداه !
 
ما عجبي من هذا ، فالسلاطين أهل دنيا ، و ألصق الناس بها ، فأمرهم مكشوف ، و مسلكهم في فرض الوصاية على جموع الخائفين معروف ، فلا ينفعهم إلا خوف الناس و خضوعهم .
 
لكن العجب من أقوام من متعاطي العلم ، و مدعي الفهم ، يمارسون على جموع الناس التغطية بالتلقين الانتقائي ، فينقلون من التاريخ والعلوم ما يظنون أنه الصواب أو أن به الصلاح ، و يحجبون عنهم ما يعتقدونه أنه بخلاف ذلكما ، فيكرسون بذلك الأمية الفكرية لدى بسطاء الناس ، لا لشيء إلا ليكونوا لهم أتباعا و مريدين و مصفقين ! 
 
  و إنهم ليبررون لأنفسهم عملهم السالب هذا بالغيرة على الدين أو على الفكرة أو المكتسبات ؛ فيلوكون في ألسنتهم ألفاظا يوحون بها للمريدين أنهم يمثلون الحقيقة و أنهم وكلاؤها ، وأنهم أهل الطريقة و نجباؤها ، و أنهم مستقر الهداية و سفراؤها ، و أن سواهم إما ضال عن الحقيقة أو مضل عنها ؛ خارج على الطريقة ؛ أو متنكب عنها ، فيغرقون المريدين بالجهل الذي ظاهره العلم ، وبالظلام الذي ظاهره النور ، و بالتقليد الذي شعاره التجديد ؛ فيتعلم مريدهم خصالا من أقبحها الانغلاق و العمى الفكريان ، و يبرمجونه بما يصبون في وعيه دونما أن يعلموه كيف يحاكمة إلى صريح المعقول من الأفكار و لا إلى صحيح المنقول من الأخبار ؛ فيصير كما يقول الفيلسوف ابراهيم البليهي مغتبطا بما عنده مما يظن أنه الحق المطلق و ما هو إلا الجهل المطبق ، فيلغون عقل من عنده قابلية العمل النافع و يسيئون توجيه فاعليته بفرض الوصاية الفكرية عليه ، كالراشد الذي يؤتمن على طفل صغير فيسيء تربيته ؛ فلا هو أحسنها و لا هو تركه في حال سبيله ، فبئس ما يفعلون !
 
كما أنه ليس آخر قبائح الوصاية الفكرية و عوراتها تعليم فن الإقصاء ؛ بئس من فن وانتكاس ، فهذه الخصلة إنما هي من لوازم تلك الوصاية و التجهيل المبرمج . و إن العلم الحق لنور تنشرح به الصدور تجاه الخلق و لا تنقبض ، و تنفتح به العقول تجاه المعارف و لا تنتقض .
 
  فبتلكم الخصال تنقلب فاعليات المريدين شرا و حماقة تجاه من يفترض بهم أن يكملوهم ويشاركوهم العمل النافع . و إنما ذلكما راجع إلى توهم الكمال ، و الإعجاب بالنفس لمقابلة الآخرين بالاستجهال . و ما هذان إلا بعض بنيات الوصاية الفكرية و ثمارها المرة .
 
  فيا لله ما أقبحها من وصاية ، و ما أخبثها من جهالة تتسلل إلى قلوب أصناف المثقفين و إن اتسعت معلوماتهم و هم في طور النشأة الثقافية فلا يكادون يتحررون منها و يبرؤون إلا قليلا ، فيمرضون و يمرضون ، و هكذا نحارب بأيدينا نهضتنا ، و نضيع انسجامنا مع أنفسنا و مع سوانا و مع الكون بأوهام ضحك علينا بها الشيطان ! فإلى متى عن الرشد ننام ؟!
 
نداء إلى المثقف العامل الغيور !
 
عليك بالإخلاص لله في العلم و التعليم ، فهما عبادتان عظيمتان إن أريد بهما الصالح العام ، فلا تضيع أجرك لسمعة أو منصب أو لمكان عند الخلق .
 
وتذكر أن من يفتح قلبه لما تطرح من شعارات الإصلاح مأخوذ بمهارتك و مسحور بسحر بيانك أو شخصيتك ؛ فاتق الله و لا تصنع منه جنديا مطيعا لسطوتك ، لكن اصنع منه مفكرا و حكيما .
 
علم من يلقي سمعه إليك ، و يفتح قلبه عليك ؛ علمه كيف يفكر بطريقة حرة موضوعية ، و
يعرض البيانات على العقل الناقد فيزيف منها الزائف الزائغ عن قواعد العدل وثوابت الإنصاف ، وليغربلها فيمسك المحكم المتماسك ويدع الغث المتداعي .
 
أي في عبارة أخرى ؛ اصنع مفكرا حرا لا تابعا مخلصا . و إنك إن فعلت ؛ فلعمري لقد سبقت أكثر الأعلام حمدا و بززتهم مجدا .


تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد