الذكاء الاصطناعي والصراع المتجدد

mainThumb

20-04-2020 09:34 PM

نعيش اليوم في عالم الذكاء الاصطناعي حيث أصبح كل شيء رقمي، أي بمعنى آخر تسيطر التكنولوجيا والأجهزة الذكية على حياتنا جميعاً من الطفل ذو السنتين إلى الكهل، الذي تجاوز الثمانين أو أكثر. ما نعيشه الآن ونحن في بدايات التحول والتأقلم مع الحياة الذكية هو في غاية الطرافة، فمن من الناس لا يقضي جل وقته على جهازه "الهاتف الذكي"، هذا الجهاز الذي تحول مع الوقت إلى جهاز شامل للتحكم في حياتنا بكافة تفاصيلها المهمة وغير المهمة، وايضاً في كافة الأشياء التي حولنا عن طريق التطبيقات المختلفة ووسائل التواصل الاجتماعي من فيس بوك، وإنستغرام، وسناب تشات، وتوتير وغيرها. بل أصبح الهاتف لصيقاً بالشخص أكثر من ذويه وأبناءه وخلانه، فمن منا يخطو خطوة خارج بيته من دون ان يكون هاتفه بيده بغض النظر عن عمله أو موقعه أو امكانياته. فأمسى الهاتف الذكي من المتطلبات الأساسية وليس من الكماليات.

هذا الفضاء الإلكتروني الواسع قد أحدث تغيراً في نمط حياتنا اليومي وفي سلوكياتنا، بحيث أصبح الإنسان أكثر انكفاءً على نفسه، ورويداً رويداً ستختفي الروابط الاجتماعية أكثر فأكثر وحتى الأُسرية منها، وستنتصر الرقمية على الحدث الاجتماعي. وما هذا سوى غيض من فيض، فنحن بصدد الدخول إلى تقنية الجيل الخامس في الاتصالات 5G، التي تدعم الذكاء الاصطناعي. أي بمعنى آخر سيأتي الذكاء الاصطناعي ليحل محل البشر في العديد من مناحي الحياة، فبدلاً من التعامل والتواصل الإنساني بين الناس عموماً في العمل وغيره، سيصبح التواصل مع الأجهزة والتقنيات المتطورة التي ستقوم بكافة الأعمال بالنيابة عن البشر وبكفاءة أعلى في بعض الأحيان. أنه إنترنت الأشياء (IoT)

عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي، قد يتبادر للذهن الهاتف الذكي والتلفزيون الذكي اللذان نستخدمهما في حياتنا اليومية، بل يمكن الحديث عن الثلاجة الذكية التي تستطيع أن تحدد كمية المواد التموينية المطلوبة وطلبها من السوبرماركت والدفع عن طريق البطاقات الائتمانية الذكية المبرمجة مسبقاً أو الاستخدامات البسيطة الأخرى التي نمارسها يومياً، مثل الارشاد على الطريق عن طريق تطبيق Google Map أو استخدام Siri وAlexa للاستفسار أو البحث عما نريد من شبكة الإنترنت. كل هذا يندرج تحت الذكاء الاصطناعي المحدود. فالذكاء الاصطناعي الذي نحن بصدده الآن هو قدرة الأجهزة على التفكير كالإنسان وبنفس الكفاءة من حيث قدرتها على تبادل المعلومات ذات الصلة عن طريق الاتصال المباشر بالإنترنت عالي السرعة والحصول على المعلومات وتحليلها وإعطاء النتائج والحلول.

فعلى سبيل المثال يمكن لهذه الأجهزة المتطورة في العلوم الطبية مثلاً، سواءً كانت روبوتات أو أي أجهزة أخرى أن تشخص المريض وتحلل الحالة المرضية وتدرس كافة الفحوصات وأن تخمن مدى تطور المرض في المستقبل عن طريق معالجة كافة البيانات الكترونياً ودراسة أفضل الطرق لمعالجة المريض وإطالة عمره أكبر قدر ممكن. والدلالة على ذلك لقد استطاع أحد الباحثين في الصين في شهر شباط الماضي من خلال أحد أجهزة الذكاء الاصطناعي قيد الدراسة والتطوير من معالجة ودراسة وتحليل بيانات 600,000 ألف طفل زاروا المستشفى وتم تشخيص حالتهم العمومية الكترونياً، وكانت البيانات مطابقة لما قام به أطباء الأطفال بمعالجتهم بالضبط. فالذكاء الاصطناعي المستقبلي الذي يدور الصراع حوله أعقد بكثير مما ذُكر وخاصة مع تقنية شبكات الجيل الخامس في الاتصالات ,5G فهما أهم تحديات القرن الواحد والعشرين وبنفس الوقت ثورة في تكنولوجيا المعلومات وعصب الاقتصاد لهذا القرن.

قبل أن نتحدث بإسهاب عن الذكاء الاصطناعي اللا محدود عن أهميته والصراع حوله، لا بد أن نشير إلى أهمية مستقبل الاتصالات المرتبط ارتباط وثيقاً في تطور الذكاء الاصطناعي. أي تقنية الجيل الخامس للاتصالات 5G، هذا الجيل الجديد من الاتصالات الذي سيستبدل الجيل الرابع 4G خلال السنوات القادمة ليقدم سرعات إنترنت أعلى بعشرات المرات من الجيل الرابع. قد يتساءل البعض لماذا نحتاج هذا الجيل من الاتصالات في حين ان الجيل الرابع يقدم سرعة عالية جداً وكافية لتلبي كافة احتياجاتنا في العمل والمنزل وخلافه.

في الواقع إن تقنية الجيل الخامس 5G كشبكة اتصالات ستغير العالم كلياً. فهذه التقنية ستكون قادرة على دعم عشر مليارات من الأجهزة المتطورة في تلبية كافة الاحتياجات وفي كافة المجالات من خلال القدرة العالية على التواصل وتبادل ومعالجة المعلومات فيما بينها وبمعدل صفر تأخير في الحصول على المعلومة فيما يسمى بالإنجليزية 0 latency. وبهذا تتيح لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أن تكون قادرة على التحكم في المرور، والتكدسات المرورية، وأعطال الطرق، وشبكات الصرف الصحي، وشبكات الكهرباء والبث التلفزيوني، والتحكم في كافة الأعطال للشبكات الكترونياً، والأجهزة المكتبية والمنزلية والحواسيب الأكثر تطوراً وسيتعدى ذلك إلى الملاحة الجوية والبحرية والتحكم بالصواريخ والأسلحة المختلفة والسيارات ذات القيادة الذاتية والتصنيع بكافة أشكاله، بل وستكون قادرة على إدارة أكثر العمليات تعقيداً وبكفاءة عالية جداً بحيث تبقي التدخل البشري في الحدود الدنيا. وغيرها وغيرها من الأشياء التي قد تفوق الخيال العلمي في وقتنا الحالي. هذه التطورات التقنية بعض منها يتمتع بجوانب مشرقة وقد تكون جداً مريحة للإنسان وايجابية، ولكنها أيضاً قد تكون سلبية جراء الضرر الكبير الذي سيطال الغالبية العظمى من البشر، فالبقاء سيكون للأفضل، الأقوى، أو ربما الأذكى.

إن الصراع الرئيسي في العالم يتمركز حول الذكاء الاصطناعي واستخداماته في كافة مجالات الحياة. فالرأسمالية تبحث باستمرار على زيادة أرباحها بزيادة الإنتاج وخلق قوة شرائية في كافة دول العالم عن طريق فتح الأسواق لمنتوجاتها المختلفة. فاستخدام الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يقلل من كلف الإنتاج بالاستغناء عن الجزء الأكبر من العمالة وبالتالي تقليص العديد من النفقات التي تتعلق بالأجور والتأمينات والحوافز ومكافآت نهاية الخدمة وغيرها. إن الصراع العالمي للرأسمالية حول الذكاء الصناعي يدور بين الولايات المتحدة والصين بالدرجة الأساسية والتي تتقدم فيه على الولايات المتحدة في أبحاثها في مجال الذكاء الاصطناعي وبعدد براءات الاختراع سنوياً فيما يخص التطور التقني للتكنولوجيا وهو ما يثير مخاوف الولايات المتحدة و يظهر جلياً في تصريحات القادة الأمريكيين، كالتصريح الذي صدرن القائم بأعمال وزير الدفاع الأمريكي باتريك شاناهان بالحرف " بان الولايات المتحدة لديها ثلاث أولويات : الصين،الصين،الصين" وهذا مفاده وبإقرار من الولايات المتحدة بإن الصين تتقدم على الولايات المتحدة في عالم التكنولوجيا وذلك باعتقادي للأسباب التالية:

أولاً: تلعب طريقة إدارة الاقتصاد الصيني دوراً مركزياً وهاماً في دفع عجلة التقدم تحو التطور المستمر وتحت وصاية الدولة. أي بمعنى أن الحكومة الصينية والحزب الحاكم هو من يوجه دفة الاقتصاد وبشكل مركزي ويتبنى دعم الشركات المحلية وتطويرها. استطاعت شركة هواوي الصينية في فترة وجيزة من أن تكون أكبر شركة للاتصالات في العالم وهو مثال حي يستفز الولايات المتحدة التي حاربت تجارياً في العام الماضي هذه الشركة بالتحديد في محاولة منها لعرقلة مبيعات الشركة من الهواتف المحمولة. فقد تصاعدت لائحة الادعاءات الأمريكية ضد «هواوي» لتشمل سرقة أسرار تجارية وغيرها. بالإضافة إلى محاولات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإثارة مخاوف العالم حيال احتمال استخدام الصين شبكاتها من الجيل الخامس كحصان طروادة لاختراق الدول الغربية أمنياً. وهو ما يعكس القلق الأمريكي الحقيقي تجاه الصين والتكنولوجيا الصينية. وهذا يدعونا للتأمل، وكأن الشركات الامريكية والإدارة الأمريكية بريئة تماماً، وتراعي حقوق الانسان، مع اننا واثقين تماماً بانها تعطي الحق لنفسها في التجسس على العالم وذلك تحت ذريعة حماية الامن القومي للولايات المتحدة، فهي تكذب وتعرف ذلك جلياً.

ثانياً: إن أحد أهم أسباب التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين ترتكز في واقع الأمر على صراع أكبر اقتصادين في العالم للسيطرة على سوق اتصالات الجيل الخامس 5G، تلك التقنية الجديدة التي تعتبرها الصين العمود الفقري للاستراتيجية التي وضعتها في خطتها عام 2015 تحت مسمى «صنع في الصين 2025»، التي ستحّول الصين إلى قوة تقنية عظمى، وتحقيق اكتفاء ذاتي بنسبة 70% بحلول 2025 في سلسلة من الصناعات بالغة الأهمية، من رقائق الكمبيوتر إلى السيارات الكهربائية، إيذاناً بانطلاق المرحلة التالية من تطورها الاقتصادي واللحاق بركب الثورة الصناعية الرابعة. فقد رصدت الصين مبلغ 20 مليار دولار لإنشاء 130 محطة لشبكات الجيل الخامس 5G مما يعتبر انجازاً لأكبر الشبكات في العالم. فيما تعتبر الولايات المتحدة تلك الاستراتيجية مصدر قلق بالغاً وتهديداً مباشراً لأمنها القومي، وذلك لإن الولايات المتحدة بعيدة عن تكنولوجيا الجيل الخامس فليس لدى الولايات المتحدة أي شركة للاتصالات منافسة لشركة هواوي التي تنافسها عالمياً شركة نوكيا واريكسون وكلاهما اوروبيتين ولكنهما اقل قدرة من شركة هواوي الصينية في انتاج وتطوير شبكات الاتصالات في العالم. مع العلم أن أوروبا بمجملها خارج هذا الصراع. فالولايات المتحدة تبحث عن البدائل وهذا يقودها إلى عدوا نيتها المفرطة.

ثالثاً: القدرة الهائلة للصين في الاستثمار في هذا المجال. فقد سجلت الصين براءات اختراع أكثر بمرتين ونصف عن الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي عام 2018 وهي في تزايد مستمر سنة تلو الأخرى. وهذا يعكس مدى جدية الصين في قيادة العالم في هذا المجال، حيث انها أبدت استعدادها لخوض حرب تجارية مع الولايات المتحدة للحفاظ على برنامجها التقني. فمن يستطيع الهيمنة على التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي هو من سيقود العالم وسيتحكم في الاقتصاد العالمي. وهذا هو جوهر الصراع الخفي الدائر رحاه الآن.

أما الصراع السياسي للرأسمالية سيتجدد بغض النظر عن الأزمة الاقتصادية التي ستعاني منها الآن وخاصة بعد ما تتبدد جائحة الكورونا، ستعمل الولايات المتحدة على تدوير أزماتها كالعادة، وستجدد الرأسمالية نفسها بقالب جديد، وهذا يدعونا للتأمل والتفكير بإن جوهر هذا الصراع سيكون أكثر تعقيداً مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي من حيث العامل البشري. فماذا سيحل بالبشر عندما تستبدل الرأسمالية المتطورة غالبية العمل الإنساني في الأجهزة والروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة. مما قد يجعلها على الأغلب أكثر عدوانية في التعامل مع الجنس البشري. وهذا سيضع تحديات جديدة امام البشرية في صراعها المستقبلي مع الرأسمالية وبحاجة إلى المزيد من البحث والدراسة والتدقيق.



تعليقات القراء

لا يوجد تعليقات


أكتب تعليقا

لا يمكن اضافة تعليق جديد