لم يتوقف كثير من المحللين عند عبارةٍ جاءت في سياقٍ عرضي، قالها الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان في مؤتمره الصحفي المشترك مع مبعوث رئيس مفوضية الإتحاد الإفريقي، والذي عقد بفندق كورنثيا بالخرطوم الأسبوع الماضي؛ فقد قال السيد فولكر بيرتس أن بعثته هي بالأساس بعثة سياسية ومن الطبيعي أن يكون ضمن موظفيها من ينتمون سياسياً، وأضاف - مستدركاً – أن موظفي البعثة لا يعملون وفق أجندة الجهات التي ينتمون إليها سياسياً وإنما وفق أجندة البعثة، أو كما قال. وقد كان السيد فولكر بحديثه هذا يبرر قراره القاضي بضم أحد المستشارين السابقين للدكتور عبد الله حمدوك إلى طاقم بعثته مؤخراً، والذي أثار قدراً كبيراً من الانتقاد.
بالطبع لم يكن الانتقاد موجهاً لتوظيف مَن لهم انتماءات سياسية، كما حاول السيد رئيس بعثة اليونيتامس أن يصور، وإنما كان موجهاً لانحياز البعثة الأممية لطرفٍ أصيل في الصراع الدائر منذ مدة بين مكونات الفترة الانتقالية، فالمستشار السابق لحمدوك لم يكن من التكنوقراط كما يُزعم وإنما كان ناشطاً مُشتطاً في مواقفه الداعية إلى إزاحة المكون العسكري من المشهد الإنتقالي وتفكيك القوات المسلحة والمؤسسات النظامية وفق رؤية المجموعة التي كانت مسيطرة من قوى الحرية والتغيير والمعروفة ب (أربعة طويلة)؛ والحال هكذا فإن أقل ما يمكن أن يتصوره المرء من وراء تعيينه في البعثة الأممية هو أن يكون صلةَ الوصلِ الموثوقة بين الممثل الشخصي للأمين العام وبين زملائه من اليسار الليبرالي وهم عِماد الفريق الذي كان يحيط بالدكتور عبد الله حمدوك، ويمثل له الحاضنة الفكرية.
الأسبوع الماضي، اجتمع في الخرطوم "التعيس وخايب الرجا" وخرجا علينا في ثياب الواعظين، ليقولا أنهما إنما أتيا ليكونا رهن إشارة السودانيين إن هم أرادوا حواراً يُفضي إلى استئناف مسيرة الإنتقال، وأنهما يطلبان تهيئة الأجواء السياسية لذلك الحوار وذلك بإطلاق سراح المتهمين من منسوبي قوى الحرية والتغيير – المجلس المركزي، وعندما سُئل السيد فولكر بيرتس عن موقفه من المعتقلين من قيادات حزب المؤتمر الوطني الذين بقوا نحو عامين دون أن يُوجه لهم اتهام، أحال السائلَ إلى ما تنص عليه مواثيق المنظمة الدولية من أنه لابد من محاكمة عادلة لكل متهم؛ هكذا تكون ازدواجية المعايير، هنا مطالبة بإطلاق سراح بدون محاكمة رغم وجود تهمة وهناك صمت ثم مطالبة بمحاكمة حتى لو بقي السياسي معتقلاً لأكثر من عام دون توجيه تهمة حتى !!
الآن تبدو الصورة أكثر وضوحاً، إذ تحاول القوى الغربية التي دعمت الإنقلاب في أبريل 2019 وشركاؤها الإقليميون، إعادة ترتيب المشهد الإنتقالي بشكل جديد بحيث يكون الدكتور عبد الله حمدوك وفريقه من اليسار الليبرالي طرفاً أصيلاً في التفاوض مع المكون العسكري، بدلاً من قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين كما كان الوضع في 2019، خاصة وأن هذه الأطراف أضحى بينها ما صنع الحداد؛ ويتسلح فريق الليبراليين الجدد بدعم مباشر من بعثة الأمم المتحدة والتي بدورها تجد الدعم المطلق من الترويكا الغربية، مع إلحاق الإتحاد الإفريقي لتجميل وجه التدخل الخارجي.
قلنا من قبل إن مآلات الأوضاع الناتجة عن الرعونة وضيق الأفق اللذين أدار بهما المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير ما مضى من الفترة الإنتقالية، وعن التشاكس والصراع على النفوذ والمال الذي كان السمة الأبرز لتلك الفترة والدخول في صراع مباشر مع المكون العسكري، هو ما أربك حسابات القوى الخارجية التي كانت تريد أن تمضي في مخططها لتغيير وجه السودان بسلاسة من خلال الزخم الذي خلقته حول التغيير الذي صاحب الإنقلاب قبل ثلاثة أعوام، ولهذا لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن جوهر الاتفاق الذي تم في 21 نوفمبر 2021 هو محاولة من تلك القوى المسنودة خارجياً لإعادة وضع القطار على سكته، وفق الرؤية الغربية.
بتوقيعه ذلك الاتفاق، كان الدكتور عبد الله حمدوك يريد أن يستخدم اسلوباً مختلفاً "لدحر الإنقلاب" وكان يمكن أن يحقق قدراً معتبراً من النجاح في ذلك لولا المزايدة السياسية للحزب الشيوعي، وقِصر نظر حاضنته السياسية من أحزاب المجلس المركزي الذين شقت عليهم مفارقة السلطة بسرعة لم يُعدوا أنفسهم لها؛ لكن مخطط "استعادة الثورة" لم يتوقف باستقالة حمدوك إذ سرعان ما اختار الرجل أن يذهب للإقامة في أحد البلدان ذات السهم والنصيب المعتبرين في مشروع التغيير، ومن هناك ظل موصولاً بمستشاريه وموظفيه السابقين، وبممثل الأمين العام للأمم المتحدة لإعادة قطار الإنتقال إلى سكته ووجهته المرسومة سلفاً.
لن يجد المحلل السياسي صعوبة في استنتاج أن السيد فولكر بيرتس، بتحركاته الأخيرة، لم يفعل الكثير سوى أنه حاول جمع أوراق وأفكار الدكتور حمدوك التي لم تكتمل وسار في نفس الاتجاه الذي كان ينوي السير فيه، والهادف إلى الإمساك بملفات الإنتقال من جديد وخلق حاضنة سياسية هلامية قوامها ما سمي بمنظمات المجتمع المدني و"أصحاب المصلحة" الذين تسترزق الغالبية منهم على الفتات الذي تجود به بعثة الأمم المتحدة والمنظمة الأمريكية للتنمية الدولية ومنظمات غربية أخرى. وأنه لإحكام التنسيق والإخراج تم إلحاق المستشار المذكور بالبعثة الأممية وتم ردف السيد ولد لبات على ذات السرج !
تقول بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان، في تلخيص لاحق لإفادات رئيسها التي أدلى بها في المؤتمر الصحفي المشار إليه: (ليس لدينا متسع من الوقت، والبلاد شهدت تدهور إقتصادي واجتماعي وأمني في أربع الأشهر الماضية) وتضيف – والأخطاء داخل الأقواس ليست من مسؤوليتي – (لن نستطيع في المرحلة القادمة التركيز على كل القضايا العالقة، ولكن سنركز على قضايا الخروج من الأزمة، ويجب أن يكون هنالك مرحلة ثانية بعد ذلك لحوار سوداني حول الأسئلة الهيكلية العامة مثل الدستور وتوزيع الموارد والعلاقة بين المركز والهامش .. وقبل بدء العملية نحتاج إلى بناء الثقة المفقودة بين السلطة الحالية والشعب السوداني. يجب وقف العنف وضمان حق التظاهر السلمي ووقف الإعتقالات التعسفية والإفراج عن المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارئ) انتهي الاقتباس.
لاحظوا أن البعثة التي تقول أنها ليست بصدد (فرض أي حل على السودانيين والسودانيات) تصف جهدها المشترك مع الإتحاد الإفريقي بأنه يأتي (لإيجاد مخرج من الأزمة الحالية الناتجة عن الإنقلاب العسكري في 25 أكتوبر وتيسير العودة للوضع الدستوري .. إلخ)، وفي الوقت الذي يبرر فيه رئيسها عدم دعوته لحزب المؤتمر الوطني للتشاور بحجة أن الحزب محظور قانونياً وهو – بيرتس – يحترم قوانين البلد الذي يعمل فيه، يصف ما حدث في 25 أكتوبر بأنه إنقلاب عسكري، ويكثر في أحاديثه للإعلام من استخدام كلمة (يجب) وكأنه هو الحاكم العام الذي يحدد ما يجب وما لا يجب؛ وفي تحديده هذا يشير على السلطة التي وصفها - ضمناً – بالانقلابية ما (يجب) أن تفعله لتهيئة الأجواء للحوار !!
التدهور الإقتصادي والإجتماعي والأمني الذي يشهده السودان حاليا ليس حصيلة الأشهر الأربعة الماضية كما يقول رئيس البعثة، وإنما هو حصيلة سنوات الإنتقال الثلاث، والسبب في ذلك هو أن البلاد تولى أمرها ناشطون وهواة وقوى خارجية منحازة لهم. ولو كانت البعثة الأممية حريصة بالفعل على إنتقال سلس وتحول ديمقراطي حقيقي لما اعتبرت أن مرجعيتها هي تلك الوثيقة المثقوبة التي هندسها "المجتمع الدولي" على يدي ممثل رئيس مفوضية الإتحاد الأفريقي - فما بني على التخريب لن يقود إلا إلى خراب أوسع - وإنما وقفت على مسافة واحدة من جميع القوى السياسية السودانية ونصحت بإعادة الأمور إلى نصابها، وتبنت دعوة صريحة لمشاركة ممثلي جميع القوى السياسية والإجتماعية السودانية في حوار شامل يفضي إلى تراضٍ على وثيقة إنتقال جديدة ويحدد أجندته بما يعيد الأمانة إلى أهلها ليختاروا ممثليهم ويفوضوا سلطتهم مَن يحكمهم مِن خلال انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.
* كاتب صحفي وسفير سوداني سابق